الشعوذة تزداد شراسة في الوقت الحاضر بسبب وفرة وسائل الاتصال
تمر المجتمعات العربية في أزمة هوية عميقة، سببت إحداث شرخاً عميقاً في شتى المجالات القيمية والاجتماعية والخلقية والدينية. وعندما يفقد مجتمع من المجتمعات إطار توجهه القيمي والأخلاقي والديني يتفكك ويصبح على طريق الزوال والاندثار بفعل التدمير الذاتي أو تذوب جماعاته في أطر قيمية وأخلاقية ودينية أخرى، عبر عملية طويلة ومعقدة، سواء من خلال الذوبان الذاتي أو القهري.
والمجتمع العربي، عموماً، مجتمع متخلف في بنيته العقلية-المعرفية، وما يزال في الطور الطفولي من تشكله، ولا يريد تجاوزها إلى الأفضل، ويظل متمسكاً بها خائفاً مرعوباً من مواجهة ذاته والعالم. فإذا واجهه فهو يواجهه بالعنف والتدمير، في إشارة إلى أنه موجود بغض النظر عن النتيجة التي يمكن أن تحصل. وينعكس هذا التخلف، من ضمن أمور أخرى كثيرة، في صورة حالة شاذة من الطلاق بين الواقع المعاش والاعتقاد بأن العلم هو السبيل الذي يستطيع الإنسان من خلاله إيجاد الحلول للمشاكل الحياتية التي تواجهه.
فالممارسات الحياتية اليومية، في جميع جوانبها، تتصف بتهميش غريب لما هو قائم على حقائق علمية في إدارة ومعالجة ما يتعلق بما يمر به الإنسان في جميع مجالات الحياة، حتى من أشخاص يفترض أنهم يحملون "شهادات عليا" ومن ثم يفترض بهم أن يتمتعوا بحد أدنى من التفكير العلمي الناقد. فالعلم والمنهج العلمي الذي يتناول المشكلات والقضايا ينظر إليه على أنه نتاج جانبي مستقل عن الوجود الإنساني يمارسه الآخرون، دون أن نفهم الغايات منه، وليس كطريقة في التعامل مع ما يواجه الإنسان من مشكلات بهدف إيجاد الحلول لها، وتحسين نوعية الحياة وتحقيق غاية خالق الكون في إعمار الأرض.
ومن إحدى السمات الأساسية التي تميز هذا الطلاق تعطيل العقل-الوعي ودخوله في حالة من الجمود التخشبي. وعندما يتم في أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية، تغييب العقل وتعطيله عن العمل يقع الإنسان تحت سيطرة الجهل، تاركاً المجال لقوى أخرى تسيطر عليه وتسلبه إرادته وتفسر له العالم بطريقتها الخاصة، وتقدم له حلولاً تتناسب مع بنيته المعطلة دون أن يكون هو نفسه مضطراً لبذل الجهد والتفكير، متخلياً عن مسؤوليته ودوره كمخلوق مخير في تناول ومعالجة مشكلاته الحياتية والوجودية.
ومنذ أن خلق الله الإنسان على وجه هذه الأرض، حاول هذا الإنسان أن يفهم نفسه والعالم من حوله، و حاول أن يجد تفسيرات للظواهر التي لاحظها من حوله. وكانت هذه التفسيرات تتناسب مع المرحلة التي وصل إليها العقل (الوعي) في تلك المرحلة.
وقد قطعت البشرية –عموماً- عبر تطورها أشواطاً كبيرة عبر آلاف السنين إلى أن توصلت إلى مناهج وطرق مختلفة للإجابة عن الأسئلة التي تشغل بالها. وعندما كانت البشرية تمر بفترات من الضياع والتيه الوجودي، تنحرف تفسيراتها للكون والعالم والأحداث من حولها، وتصطبغ بالصبغة الذاتية التي تعكس مخاوف ورغبات أكثر من تعبيرها عن حقائق –روحية أو مادية- كان الأنبياء والرسل يصححون للناس السبيل ويسترشد بهم فيما بعد الفلاسفة والعلماء والحكماء.
ومع كل هذه الأشواط التي قطعتها البشرية في تطورها إلا أنه ما زال هناك الكثير من القضايا والمسائل التي تمس الإنسان والبيئة المحيطة غير المحلولة بعد، ناهيك عن انبثاق مشكلات جديدة تتطلب الحل.
تواجد عبر كل العصور أشخاص يستغلون جهل الناس وتعطل الوعي لديهم فعملوا على استلاب الناس واستغلالهم من أجل تحقيق مكاسب ذاتية (مادية أو اجتماعية) أطلقت عليهم في شتى الأحقاب المختلفة تسميات مختلفة، كالدجل والنصب والشعوذة. وما يجمعهم جميعاً هو الادعاء بامتلاك قدرات ومهارات لا يمتلكونها بالأصل، مغتنمين فرص سيطرة الجهل وتعطل المجتمع، أو أجزاء منه، وبخاصة في حسه النقدي، وشغف الإنسان الدائم في معرفة الغيب (المستقبل) وغموض بعض المشكلات التي تواجه الإنسان وجهله بالطرق الصحيحة والسليمة التي يمكن من خلالها مواجهة هذه المشكلات، مضفين على أساليبهم هالة من الغموض باستخدامهم أدوات غير مخصصة بالأصل لما يدعون معالجته أو حله مع خلط يثير الاستغراب بين مستويات مختلفة من المناهج التي لا تنسجم مع بعضها بالأصل.
والقاسم المشترك بين هؤلاء جميعاً هو إدعاؤهم بامتلاكهم إجابة أو تفسير لمشكلات الإنسان الحياتية التي تواجهه، سواء كانت مشكلات نفسية أم جسمية، وسواء كانت متعلقة بمشكلات واجهته في الماضي، أم الحاضر أم المستقبل (الادعاء بالتنبؤ بالمستقبل ومعرفة الغيب).
وحسب المجتمع واتجاهه يستخدم هؤلاء طرقاً وأدوات تتناسب مع اتجاه التفكير السائد في ذلك المجتمع، أو مع عقيدته الدينية، لإضفاء مسحة من القدسية وزيادة الغموض والإمعان في تخدير العقل ولتغطية النقص والجهل الذي يتمتعون به هم أنفسهم به فيما يدعونه.
فبعضهم يستخدم الدين كأداة له، والبعض الآخر يستخدم العلم، أو بعض نتائج الدراسات العلمية، معتبراً إياها "حقائق علمية مطلقة" لبرهان وجود أمور ليست لها علاقة بالأصل لا بالدين ولا بالعلم.
ويشهد الإقبال على هؤلاء الدجالين والنصابين والمشعوذين فترات ازدهار وفترات انحسار. فعندما يسود الجهل ويتعطل الوعي وتزداد مشكلات الإنسان الوجودية ويفقد الإحساس بالأمان، ويفقد الحس الإيماني الصحيح والفطري (الجانب الروحي) والحس النقدي العقلي (البحث عن التفسير العلمي المنطقي المدعم بالتجربة) ويريد الهرب من تحمل المسؤولية عن أعماله وتصرفاته التي أدت للمشكلة يزداد ميله نحو ممارسات طقوسية (سحرية وخرافية) اعتقاداً منه أنها تعطيه إجابات شافية وتحل له مشكلاته بسرعة وتخفف له من حدة القلق الوجودي الذي يعيشه. وهناك أشخاص يستغلون هذا الميل بما يمتلكونه من مهارات وقدرات إيحائية ووهمية سالبين منهم إرادتهم، ومقدمين لهم إجابات "وهمية" تفسر لهم دفعة واحدة جميع أزماتهم الوجودية، دون الاضطرار إلى أيراد البرهان الملموس، لأن الوعي المعطل والمسلوب أصلاً لا يطلب البرهان، وإنما يريد الإجابة التي تعزز لديه أسلوب حياته المتخلف القائم على الجهل وتتناسب مع بنيته العقلية المعطلة، وتحرره من المسؤولية عن حالته الراهنة، من خلال عزوها مرة لتسلط الجان على البشر، أو لتأثير الأبراج على الإنسان، ومرة أخرى لخلل في نسب الأخلاط، كالبلغم، والدم، والصفراء أو الماء والتراب والهواء والنار، وما إلى ذلك من نظريات إغريقية قديمة لم يتم مرة إثبات صحتها وصلاحيتها، كأنماط مستقلة من الشخصية ذات تأثير على ماضي وحاضر ومستقبل الإنسان.
وقد ظلت هذه الممارسات طوال عقود محصورة ضمن أطر تتسع أحياناً وتضيق، إلا أنها في كل الأحوال منتشرة انتشاراً واسعاً، نتيجة عدم التعاطي الجدي معها من العلماء، من جهة، ومن السلطات المختصة من جهة ثانية، على الرغم من المخاطر الكامنة خلف هذه المظاهر والأذى المادي والنفسي والجسدي الذي يمكن أن يلحق بالناس نتيجة تصديقهم لـ "بائعي الوهم" هؤلاء.
استغلال الفضائيات
ومع انتشار الفضائيات تنبه القائمون على هذه المحطات إلى مصدر مهم من مصادر الابتزاز المادي للناس، من خلال التواطؤ مع الدجالين والمشعوذين ولو كان الأمر على حساب صحة الناس و مشاعرهم ومآسيهم وأزماتهم. فهناك سوق واسعة من "طالبي الخدمة" المتلهفين، الذين تعصف بهم أزماتهم الوجودية والنفسية، ومن الذين يعانون من فقدان الهوية والتوجه وضعف الثقة بالنفس من الذين لا يعرفون إلى من يلتجئون في المساعدة في حل مشكلاتهم. وهناك دائماً عروض مقدمة من قبل عشرات الأشخاص الذين يدركون أزمة هؤلاء ويجيدون استغلالها والمتاجرة بها، دون أن يمتلكوا المؤهل اللازم والكفاءة المتخصصة في التعامل مع مشكلات من هذه الأنواع، وجاهزين لتقديم تفسيرات "ما ورائية" للأزمات الروحية والنفسية والوجودية التي تعصف بهؤلاء. فانتشرت على هذه الشاشات ظواهر مختلفة تحت تسميات متعددة ظاهرها يوحي بالعلمية والمصداقية وباطنها مجرد وهم، كالعلاج بالأعشاب لأمراض مستعصية من نحو التهاب الكبد والإيدز...الخ والتنجيم وقراءة الأبراج وقراءة الطالع، وأخيراً ممارسات الشعوذة التي تجاوزت كل منطق إنساني وإحساس أخلاقي وديني، لا تهدف إلا إلى الكسب المادي بالدرجة الأولى، ممارسة أشد أشكال الدجل والتدليس والنفاق والكذب والنصب، مساهمة في زيادة تغييب العقل وتهميشه، باستخدام وسائل تمثل بالنسبة للعامة نقاط ضعف بسبب الضياع العقلي والتيه الوجودي، مستغلة الدين في صورة من أشد صور استغلال الشريعة قذارة.
وما تحتاجه المحطة ليس أكثر من "دجال" وكاميرا وهاتف ومقدمة حسناء من دون حجاب، وأحياناً بحجاب لإضفاء نوع من المصداقية أو مقدم برامج وهؤلاء يمثلون الإطار المادي الذي تتم فيه ممارسة النصب والاحتيال.
أما الصياد فهو إما "الشيخ" أو "الشيخة" أو "الدكتور" "أو العالم الفلكي" أو "الخبير" وإلى ما هناك من صفات توحي بأن هذا الدجال من الذين يمثلون "علماً سماوياً أو أرضياً" له جذوره الراسخة. حيث يدعي هؤلاء امتلاك قدرات خارقة في معرفة الغيب والتأثير في البشر والتواصل والتخاطر معهم، عبر الأثير وقراءة أفكارهم بوسائط عقلية، أو عبر "الجن" وتسخيره لخدمتهم والتأثير فيهم أو من خلال قراءة الطالع لهم عبر النجوم.
وأما الأداة المستخدمة للوصول إلى الهدف فهي الدين على الأغلب، وبشكل خاص القرآن الكريم، وأدوات أخرى كالحسابات الفلكية وحسابات تقوم على فكرة الأحرف الأبجدية ودلالاتها الرقمية.
الوهم المباع
والوهم المباع أو الوهم المطلوب هنا، هو أن يقوم "الشيخ" أو "الشيخة" أو "الخبير" أو "العالم الفلكي" بحل جميع المشكلات التي يعاني منها الإنسان دون أن يكون الشخص نفسه فاعلاً في الحل ودون أن يفعل شيئاً في سبيل ذلك. وهو ما يعبر عن اتجاه حياتي استسلامي مستلب وأناني، دون أن يدرك طالب الخدمة هذا أن هذا الاتجاه بحد ذاته هو سبب مشكلته.
ولا نريد هنا مناقشة أمثلة متفرقة حول هذا الموضوع لإثبات بطلان ادعاءات هؤلاء "الدجالين" ولكن ما نود الإشارة إليه في هذا الإطار هو مسألة الخلط بين ثلاثة جوانب:
• الظواهر المشكوك بوجودها بالأصل. (مثال ذلك قدرة البشر على التأثير في الآخرين من خلال أفكارهم، أو التخاطر عن بعد أو قراءة الأفكار...الخ).
• الظواهر المادية المبرهن وجودها، إلا أن طبيعتها غير مفسرة بعد أو غير مدروسة كلية، أو المدروسة بشكل جزئي فقط في إطار معين. (مثال ذلك الأحلام) فالأحلام غير مشكوك بوجودها إلا أنه بسبب الصعوبات في بحثها التجريبي لا توجد على سبيل المثال نظرية مقبولة ومعترف بها بشكل عام حول الأحلام.
• الجوانب الملتبسة بالدين المستندة إلى أساس إيماني، حتى وإن لم يقم الدليل العقلي ببرهانها أو إدراكها بالتجربة الحسية المباشرة.
وهؤلاء يخلطون بمهارة بين هذه الجوانب الثلاثة مستغلين عدم إدراك العامة لهذا، فيمزجون مثلاً بين ظواهر مثل الإيحاء والتنويم المدروسة آلياتها الفيزيولوجية النفسية بدقة، ولكن غير المعروفة كثيراً بالنسبة للعامة مع ما يدعونه من ظواهر كالتأثير عن بعد وقراءة الأفكار والسيطرة على "الجن". ويوحون بأنه إذا كانت هناك أشياء كالتنويم، على سبيل المثال الذي يمكن بمساعدته القيام بأشياء عجيبة فلماذا ينبغي ألا تكون هناك قراءة أفكار أو تخاطب مع "الجن" أو السيطرة على مصير الإنسان؟
وكتعويض عن البراهين الناقصة يقوم هؤلاء باستخدام مصطلحات غير مفهومة وغامضة ويشيرون إلى نظريات أو فرضيات معروفة في ميادين التخصص، ولكنها لا تعني شيئاً بالنسبة للعامة، كالمصطلحات النفسية والفلكية، ويستخدمون أحياناً الإحصاء والرياضيات للإيحاء بأن نتائج أعمالهم موثوقة إحصائياً، مستغلين جهل العامة بأن البيانات المعالجة إحصائياً لابد وأن تخضع لشروط محددة، وهم بهذا يقومون بتطبيق اختبارات إحصائية على بيانات غير موضوعة لها بالأصل.. هذا إذا قاموا بالأصل بمثل هذه الدراسات. فأحدهم ادعى مؤخراً عبر إحدى الفضائيات بأن "الجن" يسير بسرعة الضوء وأن سرعته تبلغ مئات أضعاف سرعة الضوء ولهذا نحن لا نراهم (لا أذكر الرقم بالضبط الذي أشار إليه فقد حدد رقماً دقيقا).
والجانب الأخطر من هذا هو استخدام القرآن الكريم كوسيلة لإضفاء وهم بمصداقية ما يقومون به. فنجدهم مثلاً يستغلون مسألة ذكر وجود الجن في القرآن الكريم كدليل على أن الجن لا هم له ولا شغل سوى تفريق الأزواج عن بعضهم وتوليد العداء بين البشر وتعسير أمورهم الحياتية وإصابتهم بالأمراض...الخ. والنتيجة ستكون معروفة مسبقاً هنا: فالتشكيك بوجود مثل هذا التأثير على البشر سيقود مباشرة إلى الهروب إلى قضايا ليست على علاقة بالمسألة المطروحة، ولكن لا يستطيع الآخر الجدل فيها، كأن يتم سؤاله: "ألا تؤمن بالقرآن"؟ " واتهامه "بالكفر" "والإلحاد" لأنه ينكر وجود "الجن" على الرغم من أنه مذكور في القرآن الكريم، علماً أن الإيمان بوجود "الجن" شيء والاعتقاد بعدم قدرة تأثير الجن في البشر جانب آخر لا علاقة لواحد بالآخر. إنه نوع من الإرهاب الفكري الذي يسعى إلى تعطيل العقل والحس النقدي عند الإنسان، واستلاب الوعي ومصادرة الحقيقة القرآنية وعدم السماح للآخر حتى مجرد التفكير بمضمونها.
الظواهر المحققة لنفسها
هناك ظاهرة في علم النفس إسمها "الظواهر أو التنبؤات المحققة لنفسها". فإذا اقتنع إنسان ما بأن هناك من البشر من سخر الجن كي يطلق زوجته وطلق زوجته بالفعل، فإن هذا لا يمثل بأي حال من الأحول دليلاً على صدق المشعوذ، وإنما يشير إلى أي مدى يتأثر سلوكنا بقناعاتنا المسبقة وبمشاعرنا. أو إذا أقنع مشعوذ ما شخصاً ما بأنه قد خلصه من الجن الذي يسبب له الصداع، على سبيل المثال، فإن هذا ليس دليلاً على قدرة المشعوذ، وإنما هو دليل على درجة تأثير العمليات النفسية في الجانب الفيزويولوجي عند الإنسان.
وهنا قد يقول شخص ما إن التأثير الوهمي الذي يمكن أن يحققه هؤلاء المشعوذون مفيد أحياناً. غير أنه لا بد من الإشارة إلى أن التحسن الذي يمكن أن يظهر في الحالة الصحية عند الإنسان نتيجة تأثير المشعوذ يمكن أن يحجب تقدم مرض عضوي خطير موجود بالأصل وغير معروف بعد. وهناك حالات معروفة قاد فيها التحسن الظاهري إلى تفاقم في الحالة الجسمية وتأخر في تشخيص وعلاج مرض عضوي. وهناك من هؤلاء المشعوذين من يطلب بكل ثقة من شخص ما بألا يجري أي عمل جراحي قرره الأطباء له أو يتناول أية أدوية تم وصفها له لأنها لن تنفعه كما يدعي، وأن ما ينفعه هو تناول أعشابه التي سيصفها له، أو يعتمد على الجني الذي سيرسله له ليخلصه من مرضه أو يطرد الجني الساكن فيه ...الخ خلال ساعات أو أيام.
وللأسف فإن "الفهم الإنساني الصحيح" و المنطق لا يتطابقان دائماً. فنسمع آراء من نحو: إن غالبية "المشعوذين" مشكوك بهم، وليس كل ما يقومون به صحيحاً، ولكن هناك بعض الظواهر التي تصح معهم، وهذا يمثل دليلاً على صحة ادعاءاتهم. فطالما هناك أشخاص استفادوا، فإن ذلك دليل على أن حقيقة وصحة ما يمتلكونه من قدرات. ويمكن الإجابة هنا أنه مع تزايد وجود الظواهر المشكوك بها فهذا لا يعني أن صحتها ستتزايد.
يدعي بعض المشعوذين، سواء الذين يستغلون الدين أو العلم، بامتلاكهم قدرات خارقة في مجال التخاطر والتأثير في أفكار الآخرين وقراءة أفكارهم مستخدمين مصطلحات علمية وفيزيائية لإحداث التأثير الوهمي واستلاب الإنسان، من نحو الطاقة والذبذبات والإشارات المغناطيسية أو الالكترونية. وبلغت العنجهية عند بعضهم الادعاء بالتأثير بالبشر عبر الشاشة دون أي اتصال مباشر بينهم و معرفة ما يفكرون به و ما ينوون القيام به وماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم. ففي مقال نشر في مجلة "نيتشر" البريطانية في عام 1979 قام كل من تايلور و بالانوفسكي بتقدير أن الطاقة اللازمة لنقل الأفكار يبنغي لها أن تتجاوز كثيراً قدرة الموجات الاليكترومغناطيسية المنطلقة والمستقبلة من الدماغ. كما أن هؤلاء لا يستطيعون تفسير كيف يستطيعون حل شيفرة المعلومات الواردة إليهم، ذلك أن الأفكار لا تنتقل في شكل أمواج صوتية، أو كيف يستطيعون الفصل بين عشرات البيانات الواردة إليهم من البشر في جميع أنحاء الأرض وتصنيفها وفرزها دفعة واحدة.
إن الادعاء بأنها قدرة ربانية منحها لله سبحانه وتعالى لهم لا تمثل دليلاً بعد على صحة ما ينادون به، ناهيك عن أن أسلوب كلامهم ومستوى لغتهم وثقافتهم والأخطاء التي يرتكبونها عند قراءة الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية الشريفة والأدعية ...الخ لا تشير بأي شكل من الأشكال إلى أن الله تعالى لم يجد غير هؤلاء ليقوموا بتسخير الجن وقراءة الأفكار ويخلصوا الأمة العربية والإسلامية من مآسيها ومآزقها الوجودية. ولكن للأسف هناك من لا يريد رؤية سوى ما يريد أن يراه.
الانعكاسات السلبية لمحطات التجهيل
أما الآثار الناجمة عن "محطات التجهيل" تلك فيمكن اختصارها بالجوانب التالية:
• النصب والاحتيال بواسطة مهنة ليست من المهن التي تقوم على أسس علمية مضبوطة، وتقدم خدمات لأشخاص في مجالات ليست من اختصاصها، وادعائهم بتحقيق أمور لا يمكن التأكد من صحتها وفاعليتها، ولا يمكن برهانها باستخدام أدوات لم توجد بالأصل لهذه الغايات.
• إساءة استخدام واستغلال مآسي البشر وبيعهم خدمة لا تقود إلى حل مشكلاتهم، بل يمكن أن تزيد من مشكلاتهم.
• زيادة تشكيك الناس بذاتهم ومحيطهم وبدينهم وبالعلم، كطريق أساسي لحل مشكلاتهم الحياتية والوجودية.
• تسميم عقول الناس وتجهيلها ودفعها للاعتقاد بوجود قوى أخرى (الجن، النجوم) مسؤولة عما هم فيه الآن ومن ثم فإنهم مسيرون من هذه القوى مهما فعلوا، وأن ما يمرون به من سوء ليس منهم أنفسهم بل من جراء هذه القوى المتسلطة عليهم وأنهم واقعون تحت رحمة هذه القوى لاحول لهم ولا قوة.
• تنمية أفكار ضلالية وهمية عند الإنسان المستلب بتسلط قوى الجن والنجوم والأخلاط عليه، فتتضخم نرجسيته معتقداً أنه شخص مهم جداً ويمتلك شيئاً ما مهم يحسده عليه الجن، أو الآخرين ويريدون استلابه منه، ما يولد التفكك الاجتماعي والشك بالآخرين والخوف الدائم منهم، وربما في النهاية تتولد لديهم نزعة التدمير الذاتي أو تدمير الآخرين، طالما هم مصدر تسخير الجن لملاحقة المعني.
إن مثل هذه المحطات وسيلة من وسائل تسميم العقل وتعطيله. وسواء أدرك أصحابها ومرخصوها أو لم يدركوا فإنهم يسهمون في تشويه الإنسان دينياً واجتماعياً وسياسياً، فيتحول الدين إلى مجموعة من الطقوس الخرافية التي غايتها منع القوى الشريرة المتربصة بنا من إلحاق الأذى.. تماماً كما كان الإنسان البدائي يفعل بتقديم قرابين للشمس والقمر و النار و الحجر لتحميه من شرها، ويفقد الإنسان بالتدريج علاقته الروحية بالدين كمنظومة من القيم الإلهية التي تنظم له حياته وعلاقاته بالآخرين، ويتحول هذا الإنسان إلى كائن مستسلم تحت رحمة هذه القوى الشريرة لا حول له ولا قوة، ولا تأثير له على حياته وواقعه المعاش ومستقبله، لأنها هي التي تسير له قدره، ويتحرر من تحمل المسؤولية عن نفسه ومجتمعه ودينه، وينسحب من الحياة الاجتماعية ليختبئ في جحره كالفأر المذعور من تربص الجن له، خشية إلحاق الأذى به ويتخلى عن المشاركة في تقرير مصيره الفردي هادراً وقته في التفكير بالكيفية التي سيتخلص بها من هذا الجني الذي لا عمل له سوى التسلط على أمة العرب، أو ذاك المشعوذ الذي يؤثر فيه بأفكاره التي يبثها في كل مكان حتى عبر شاشة التلفزيون، فإذا ما لم تكن هذه الأسباب كافية لمحاربة هذا الفكر التجهيلي وإغلاق هذه المحطات حرصاً على الإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالي وخلقه في أحسن تقويم -وأحسن تقويم لا تعني الشكل فقط وإنما المضمون أيضاً- فما هي الأسباب إذاً؟
لقد ترسخت طقوس السحر والشعوذة عبر العصور وهي تزداد شراسة في الوقت الحالي بسبب وفرة وسائل الاتصال. ومسؤولية محاربة هذا الفكر الخرافي والتجهيلي تقع على عاتق الجميع، بدءاً من رجال الدين والعلماء والساسة والمربين في المدارس وكل عاقل مدرك لخطورة مثل هذه الظواهر اللاأخلاقية.
فمسؤولية علماء الدين تتمثل في بذل المزيد من الجهد في توضيح جانب الشعوذة في هذه الأمور وغرس القيم الإيمانية الصحيحة، وعدم ترك الناس يقعون فريسة للجهل والتجهيل. ومحاسبة كل من يستخدم القرآن الكريم والدين كأداة من أجل غايات غير الغايات المحددة في القرآن الكريم والسنة النبوية.
ومن واجب العلماء فضح أساليب هؤلاء، عبر التنوير العلمي وتوضيح الظواهر، وتوعية الناس بالمسائل والقضايا التي يتناولها العلم، وكيفية تناوله لها، وتنمية التفكير العلمي لدى الناشئة وغرس الإيمان لدى الناس بأهمية العلم في البحث عن حلول للمشكلات الحياتية التي يواجهها البشر، كون العلم هو الطريق الذي من خلاله يعمّر الإنسان الأرض، وأن هناك مناهج وأساليب مختلفة لتفسير الظواهر، وأن الحقائق العلمية –حتى القائمة على التجريب منها- ليست حقائق راسخة لا يطالها الشك حتى مع توفر الدليل القاطع لها، وإنما هي مجرد معارف صالحة حتى يثبت بطلانها.
وعلى عاتق رجال السياسة يقع واجب القيام بمسؤوليتهم تجاه الناس من خلال عدم التصريح لمثل هذه الفضائيات وإغلاقها. قد يعترض قائل فيقول إن هذا يتناقض مع حرية الإعلام، ولكن حرية الإعلام لا تعني أبداً تسميم العقل وتجهيله. فهل يمكن السماح لتاجر ببيع بضاعة فاسدة بحجة حرية التجارة، أو بحجة أن هناك من يشتري بإرادته؟
منقول