أوجه الإعجاز في القرآن الكريم
تتعدد أوجه الإعجاز في كتاب الله بتعدد جوانب النظر فيه, فكل آية من آياته فيها إعجاز لفظي وبياني ودلالي, وكل مجموعة من الآيات, وكل سورة من السور طالت أم قصرت, بما فيها من قواعد عقدية, أو أوامر تعبدية, أو قيم أخلاقية, أو ضوابط سلوكية، أو إشارات علمية, إلي شيء من أشياء هذا الكون الفسيح وما فيه من ظواهر وكائنات, وكل تشريع, وكل قصة, وكل واقعة تاريخية, وكل وسيلة تربوية, وكل نبوءة مستقبلية, كل ذلك يفيض بجلال الربوبية, ويتميز عن كل صياغة إنسانية ويشهد للقرآن بالتفرد كما يشهد بعجز الإنسان عن أن يأتي بشيء من مثله.
وقد أفاض المتحدثون عن أوجه الإعجاز في كتاب الله, وكان منهم من رأي ذلك في جمال بيانه, ودقة نظمه, وكمال بلاغته, أو في روعة معانيه وشمولها واتساقها ودقة صياغتها, وقدرتها علي مخاطبة الناس علي اختلاف مداركهم وأزمانهم, وإشعاعها بجلال الربوبية في كل آية من آياته.
ومنهم من أدرك أن إعجاز القرآن في كمال تشريعه, ودقة تفاصيل ذلك التشريع وحكمته وشموله, أو في استعراضه الدقيق لمسيرة البشرية ولتاريخ عدد من الأمم السابقة من لدن أبينا آدم (عليه السلام) إلي خاتم الأنبياء والمرسلين (عليه وعليهم أجمعين أفضل الصلاة وأزكى السلام), مما لم يكن يعلم تفاصيله أحد من الناس.
ومنهم من رأي إعجاز القرآن الكريم في منهجه التربوي الفريد, وأطره النفسية السامية والعلمية في نفس الوقت, والثابتة علي مر الأيام, أو في إنبائه بالغيب مما تحقق بعد نزوله بسنوات طويلة, أو في إشاراته إلي العديد من حقائق الكون وسنن الله فيه مما لم يكن معروفا لأحد من البشر وقت نزول القرآن ولا لمئات من السنين بعد ذلك النزول, ومنهم من رأي إعجاز القرآن في صموده علي مدي يزيد علي أربعة عشر قرنا لكل محاولات التحريف التي قامت بها قوي الشر المتعددة متمثلة في الكفرة والمشركين والملاحدة علي مدي تلك القرون العديدة وذلك لأن الله تعالي تعهد بحفظه فحفظ قال تعالى: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾[22] ومن العلماء من يري إعجاز القرآن في ذلك كله وفي غيره، وبعد أن تحدثنا عن أقوال العلماء بصورة إجمالية نحاول أن نستجلي بعضا من وجوه الإعجاز في القرآن في بعض العلوم على سبيل التفصيل.
المطلب الأول: الإعجاز النظمي للقرآن الكريم:
كانت الكثرة الكاثرة من القدامى والمعاصرين علي حد سواء قد ركزوا اهتمامهم علي ناحية نظم القرآن الكريم فهذا ابن عطية الأندلسي (ت546 ه) يذكر في مقدمة تفسيره (278/1) ما نصه : إن الله قد أحاط بكل شيء علما, فإذا ترتبت اللفظة من القرآن, علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولي, وتبين المعني بعد المعني, ثم كذلك من أول القرآن إلي آخره, والبشر يعمهم الجهل والنسيان والذهول, ومعلوم ضرورة أن أحدا من البشر لا يحيط بذلك , فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة, وبهذا يبطل قول من قال : إن العرب كان في قدرتهم الإتيان بمثله فصرفوا عن ذلك, والصحيح أنه لم يكن في قدرة أحد قط، ولهذا نري البليغ ينقح القصيدة أو الخطبة حولا, ثم ينظر فيها فيغير منها, وهلم جرا, وكتاب الله لو نزعت منه لفظة, ثم أدير لسان العرب علي لفظة أحسن منها لم يوجد.. وقامت الحجة علي العالم بالعرب, إذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة.
وهذا هو الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين أحد العلماء المعاصرين يكتب فصلا في إعجاز القرآن (كتقديم لترجمته لكتاب الظاهرة القرآنية للمفكر الإسلامي الأستاذ مالك بن نبي (يرحمه الله) يحدد فيه الإعجاز في دائرة البيان والنظم حيث يقول: إن الآيات القليلة من القرآن, ثم الآيات الكثيرة, ثم القران كله, أي ذلك كان في تلاوته علي سامعيه من العرب, الدليل الذي يطالبه بان يقطع بأن هذا الكلام مفارق لجنس كلام البشر, وذلك من وجه واحد, هو وجه البيان والنظم.
وإذا صح إن قليل القرآن وكثيره سواء من هذا الوجه, ثبت أن ما في القرآن جملة, من حقائق الأخبار عن الأمم السابقة , ومن أنباء الغيب, ومن دقائق التشريع, ومن عجائب الدلالات علي ما لم يعرفه البشر من أسرار الكون إلا بعد القرون المتطاولة من تنزيله, كل ذلك بمعزل عن الذي طولب به العرب, وهو إن يستبينوا في نظمه وبيانه انفكاكه من نظم البشر وبيانهم, ومن وجه يحسم القضاء بأنه كلام رب العالمين... ولكن إذا جاز هذا التحديد علي موقف التحدي من مشركي العرب - علي الرغم من عدم وجود الدليل علي ذلك - فانه بالقطع لا يجوز علي إطلاقه, خاصة أن العرب اليوم في جملتهم قد فقدوا الحس اللغوي الذي تميز به أسلافهم, وأن التحدي بالقرآن للإنس والجن متظاهرين هو تحد مستمر قائم إلي يوم الدين, مما يؤكد أن ما في القرآن من أمور الغيب, وحقائق التاريخ, ومن فهم دقيق لمكنون النفس البشرية وحسن الخطاب في هدايتها وإرشادها وتربيتها, ومن مختلف الصور التي ضربت لعجائب آيات الله في خلقه, ومن غير ذلك مما اكتشفه ولا يزال يكتشفه (في كتاب الله) متخصصون في كل حقل من حقول المعرفة, لا يمكن أن يبقي بمعزل عن ذلك التحدي المفضي إلى الإعجاز القرآني, والدال علي أن القرآن كلام الله.
المطلب الثاني: الإعجاز الرقمي للقرآن:
وإذا كنا تحدثنا عن الإعجاز النظمي والبلاغي والنحوي والصرفي في القرآن الكريم وهي أوجه الإعجاز المختصة بالعرب فإننا نتحدث عن وجه جديد من أوجه الإعجاز في القرآن الكريم وحديثنا عن الإعجاز الرقمي فنكشف فيه عن مقابلات عديدة توازي بعض المقابلات اللفظية في القرآن وتتكرر بكثرة تلفت النظر فنرى أن لفظ الحياة ومشتقاتها يتكرر في القرآن 145، وبالمثل يتكرر لفظ الموت ومشتقاته 145، وكلمة الدنيا ترد 115 مرة، وكلمة الآخرة 115، الملائكة 88، الشياطين بالمثل 88، الحر4 مرات، والبرد 4 مرات وكذلك المصائب 75 مرة والشكر 75 مرة الزكاة 32 مرة، البركات 32 مرة، العقل ومشتقاته 49 مرة، النور ومشتقاته 49 مرة.
فهل كل هذه مصادفات أم هي إشارة إلى وجه آخر من وجوه الإعجاز في ذلك الكتاب المحكم لفظا ومعنى وحروفا وأعدادا[23]؟
المطلب الثالث: الإعجاز اللفظي:
من أجمل الإعجازات القرآنية الإعجاز اللفظي وهو أن تسمع الكلمة وتقول باستحالة أن يوضع أي لفظ مكان اللفظ الموجود يؤدي إلى نفس المعنى الموضوع في القرآن لمجرد أن تصطف الحروف في السمع بهذا النمط الفريد ذلك العزف بلا آلات وبلا قواف وبلا بحور وبلا أوزان ولننظر ونسمع وبدون تعليق ﴿قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا﴾[24] كلام زكريا لربه.
﴿وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا﴾[25]
كلام المسيح في المهد.
﴿أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا﴾[26] جملة موسيقية تتحدث عن خشوع الرسل.
﴿إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر﴾[27] حديث القرآن عن المجرمين تحولت الكلمات إلي جلاميد صخر.
﴿وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع﴾[28]
﴿فإذا جاءت الصاخة﴾[29] وصف صعب ليوم أصعب.
﴿الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين﴾[30]
والحكمة واضحة فالمرأة في الزنا هي البادئة وهي التي تدعو الرجل بزينتها وتبرجها أما في السرقة فهي أقل جرأة من الرجل إننا إذن أمام كلمات مصفوفة بإحكام ودقة وانضباط[31]
منقووووووووووول
l