مقدمة
تواصل الكاتبة سنا الحاج في هذه المساحة عناوين الفصل الثاني من (نبتة تعلو فوق الصخور) بعنوان جديد هو: جراحة على حين غفلة، وهو الفصل الذي يتضمن موضوعات تخصها كفتاة معوقة في فترة المراهقة والشباب وتناولت فيه مواضيع: زملاء في الإعاقة، حوار في الحب، لماذا خلقني الله هكذا! وكان آخرها المنشور في عدد المنال الالكترونية 283 لشهر مارس 2014 وحمل عنوان: ذكريات من الحرب.
جراحة على حين غفلة
... وهكذا استمرت حياتنا محاولين العيش متناسين الحرب قدر الإمكان نقوم بالأشياء التي عادة لا يقوم بها إلا من يحيا حياة طبيعية آمنة بعيدة عن القتل والعنف والتدمير، وكان صيف عام 1987 وبعد الانتهاء من عامي الدراسي مباشرة وإنهاء المرحلة الثانوية، فوجئت بأبي يطلب مني تجهيز نفسي للذهاب معه إلى الطبيب، وكعادته كان مندفعاً متحمساً يريد أن يفعل كل ما يستطيع فعله كي لا يتفاقم وضعي الصحي سوءاً بحسب رأيه، ووضعي الصحي هذه المرة كان اعوجاجاً بسيطاً ظهر في العمود الفقري منذ خمس سنوات إلى الوراء وكان أبي هو الذي لاحظ هذا الاعوجاج غير الظاهر جلياً ولكن مراقبته الطويلة لي أثناء جلوسي وقيامي ومشيي جعلته يكتشف هذا الأمر، والطبيب حينها قال إنه لا مشكلة الآن وتستطيعين في المستقبل إجراء عملية إن أردتم فالأمر غير مستعجل والاعوجاج بسيط لا يتخطى الثلاثين درجة وفي هذه الحالة كما علمت لاحقاً وبعد فوات الآوان لا يستدعي التدخل الجراحي وهو غير ضروري، ويسمى (Scoliosis) وهذا يحدث من جراء الاتكال والضغط أثناء المشي على عضلات جهة واحدة من الجسم أكثر من الأخرى، لذلك أنتظر أبي لكي أنهي المرحلة الثانوية قبل أن تبدأ رحلة جديدة طويلة وصعبة.
كان موعدنا مع الطبيب الأشهر في المدينة والجميع يشهد له بالكفاءة والخبرة، خاصة أنه كان يعالج الكثيرين من الجرحى أثناء الحرب، رافقت أبي إلى الطبيب وأنا في استسلام تام لا أدري ما كان ينتظرني بعد هذه الزيارة، قلت نعم ومشيت بالرغم من عدم إحساسي بأي ألم وكنت في كامل عافيتي أمشي مسافات طويلة وأتنقل بحرية دون تعب أو ضعف، مشيت معه فقط لأن ثقتي بوالدي وباختياره للطبيب كانت كبيرة، وفي كل الحالات لا استطيع أن أرفض ما يراه مناسباً خاصة في موضوع صحتي لأنه كان متابعاً لجميع مراحل حالتي وبدوره كان يثق بالعلم والطب ويستفسر من أطباء يعرفهم عن كل جديد ويسعى لإيجاد أشهر الاطباء في هذا المجال ليضعني بين يديه. وقد أوصى بنا أحدهم لدى الطبيب الذي نقصده، دخلنا إليه معاً رحب بنا وكان هادئاً ولطيفاً، أجرى لي الفحص السريري ونظر في صور الأشعة التي كانت لدينا، ثم تلا حكمه بإجراء عملية جراحية لتقويم الإعوجاج القائم بالرغم من أنه بسيط ولا يتعدى 30 درجة، قائلاً إن إجراء هذه العملية يحد من زيادة الإعوجاج في المستقبل وهي مناسبة الآن لأن نمو عظامي قد اكتمل، كنت حينها في الواحدة والعشرين من عمري، ثم ابتسم وقال: هذا فضلاً عن أن طولك سوف يزيد بضعة سنتيمترات عما هو عليه الآن.
بعد أسبوع دخلت إلى المستشفى وكالعادة أجريت لي الفحوصات اللازمة قبل يوم من العملية، ثم تحضيري دون أن ألاحظ الفرق بين هذه العملية وما سبقها من عمليات من حيث الصعوبة، حتى اعتقدت أنها كغيرها، وللأسف لم تكن كذلك.
دخلت إلى غرفة العمليات مطمئنة غير قلقة، ودعت أمي وأبي كالعادة بابتسامة لفتاة قوية لا تأبه العمليات الجراحية، استغرقت العملية سبع ساعات بالتمام وهي عبارة عن تثبيت فقرات العمود الفقري حيث الاعوجاج بعد قطع عظم صغير من الحوض وزرعه بين الفقرات المراد تعديلها وتثبيتها، ثم يتم وضع أسياخ صلبة من التيتانيوم على جانبي الفقرات والشرائح الصغيرة اي المسامير التي تثبت فيهما الأسياخ ثم يغلق الجرح الذي بطول ظهري.
بعد الانتهاء من عملهم وزرع الكثير من الانابيب في جسدي، كانت كثيرة بالفعل، في يدي اليمنى كان كيس المصل التقليدي، وفي اليسرى كان هناك كيس من الدم بسبب فقداني للكثير منه أثناء العملية، وكانت هناك أربعة أنابيب تتدلى من ظهري وهي لخروج الدم الفائض من الجرح، بالإضافة إلى انبوب البول، نقلوني بهذا الشكل المريع إلى غرفتي وكنت ما زلت تحت تأثير المخدر، بعدها علمت أن أبي كاد يغمى عليه عندما رآني، وقف فوق رأسي محاولاً التحدث إلي فلم أسمعه، كان فمي جافاً، شفتاي متورمتان، وعيناي أيضاً، وجهي كان كرغيف الخبز الخارج للتو من الفرن منتفخاً، حاولت جاهدة أن استيقظ وأن أتكلم فلم أتفوه إلا بكلمة واحدة أريد ماءً، وبالطبع كان ممنوعاً علي، وبسبب هذا المنع كنت أعود واستسلم للنوم، وبين الصحو والنوم سمعت أبي يقول: أنت أم المصائب، كيف لك أن تتحملي كل هذا.
مرّت الأيام بلياليها الخمس وأنا لا أميز بين ليل ونهار، مستلقية فوق ذاك الجرح الكبير وما يتدلى منه، وكان علي أن استيعض عما فقدته من دم بخمس وحدات من الدم، كلما انتهت وحدة أتوا بأخرى وهذه تعطى في الشريان، وتلك كانت معاناة أخرى إذ كان الدم لا يسيل بالسهل في شرياني ما يضطرهم إلى جمع كيس الدم بقماش آلة الضغط فيضغطوا به حتى يسير في شرياني، كان ألمه كبيراً، حتى صراخي كان يزيد من ألم جسدي كله.
في الليل عندما ينتهي مفعول المسكن استيقظ وانتظر بزوغ الفجر أعد الثواني والدقائق علّي ألمح ضوءاً أو أسمع صوتاً، وفي النهار أغفو وأصحو أرى أمي وأبي وزواراً كثر كانوا يجيئون من بعيد رغم أن الأحوال الأمنية لم تكن تسمح بذلك.
بعد أسبوع حلّو جسدي من الأنابيب وجاء ما هو أصعب منها، ألبسوني قميصاً من الجبس، وبالطبع كل ذلك وأنا مستلقية على ظهري وممنوع عليّ حتى أن أرفع رأسي على مخدة أو ما شابه، كنت كلوح الخشب ممددة على الفراش. بعدها أخرجوني من المستشفى في سيارة الإسعاف وصعد بي المسعفون على الدرج وأنا ممددة حتى بيتنا في الطابق السابع، وبقيت على هذه الحال مدة ثلاثة أشهر متتالية وهي الأشهر الأكثر حراً ورطوبة تموز / يوليو وآب / أغسطس وأيلول / سبتمبر.
كان عليّ أن أصبر فأستعين بالدعاء والصلاة، مرّت الأشهر الثلاثة وسمح لي بعدها الطبيب بالجلوس فقط مع بقاء الجبس الثقيل الذي زاد من نحول جسدي وضعفه، جلست على كرسي متحرك وبات الأصدقاء يخرجوني من المنزل للتنفس وقضاء بعض الوقت معهم، وفي مرة عدت من إحدى الزيارات فوجدت الكهرباء مقطوعة وكان عليّ أن أصعد إلى البيت لأن مزاجي كان سيئاً يومها وأشعر بضيق شديد، فطلبت بعصبية من أختي أن تأتي لي بالعكازين إلى مدخل البناية، فجاءت بهما ثم نهضت من على الكرسي ممسكة بالعكازين وبثقل الجبس الذي هبط نزولاً بعض الشيء وصعدت الدرج على هذا الشكل حتى الطبقة السابعة، كان ضرباً من الجنون، وصلت بأنفاس متقطعة، وصرخت بمن كان في البيت أن إياكم وإخبار أبي بالأمر.
أكملت الشهر الرابع على هذا النحو وبعدها تم نزع الجبس على أن أبقى مستريحة على الكرسي لفترة أسبوعين على الأقل، وبعدها أبدأ بالمشي رويداً رويداً دون إجهاد. حينها وبحسب علمي وعلم الجميع أن هذه الجراحة كان لا بد منها لتحسين وضعي الصحي، ولكن ما كنا نجهله بعد مرور سنتين من الوقت عندما علمت من أحد الأطباء أنه ثبت حديثاً بأن العمليات الجراحية للاعوجاج في العمود الفقري الناتج عن شلل الأطفال أكثر تعقيداً من حالات الاعوجاج الأخرى، لأن العضلات في حالات الشلل لا تعمل بشكل طبيعي بعد العملية كما وأن تثبيت الفقرات يجعل من الظهر قطعة واحدة يعيق حركة الحوض والقدمين، وهذا بالفعل ما أصبحت عليه بعد العملية أصبح ظهري قطعة واحدة أمشي بصعوبة وبآلام لم أكن أشعر بها من قبل، كانت الجراحة الأصعب والتي حولت جسدي النحيل بكل ليونته السابقة إلى لوح خشبي جامد، أمشي كالروبوت.
في البداية صدمت بالخبر، بعدها بدأت أتعايش مع الأمر وما باليد حيلة، وبدأت أستعرض بعض الحالات الأصعب لمريضيتن من أصدقائي كانتا قد أجرتا العملية نفسها ولكن كان وضعهما أصعب لأن جسديهما أثقل لزيادة وزنهما ما استدعى بقاءهما على الكرسي المتحرك دائماً. أما نتيجة جراحتي فكانت أفضل منهما فقط لأن جسدي نحيل ووزني أقل، مما مكنني من معاودة المشي ولو بصعوبة في البداية، عملت بعدها على المحافظة على وزني كما هو وزيادة حركتي ومشيي تدريجياً، بالأخص بعد أن تبين أن العظم الذي زرع قد التحم بالفقرات بشكل جيد، والاسياخ الصلبة المزروعة في ظهري في وضعها الطبيعي، عندها شجعني الطبيب بأن أتابع المشي وأن كل شيء على ما يرام.
اليوم أعود وأسأل نفسي: هل صبرت حينها بما عشته من خوف ورعب في تلك الحرب العبثية والدامية، وفيما عانيته من جراء تلك العملية الجراحية التي أعادتني سنوات إلى الوراء فقط لانني لم أكن أملك شيئاً حيال الأمرين؟
ما أدركه اليوم وما استفدته من هذه التجارب أنه لا بد من معايشة كل أمر واقع بالأخص إن كان خارجاً عن إرادتي، وما وقعت فيه أمر حصل وانتهى ولا عودة إلى الوراء، واجهته بما أوتيت من قوة، لذا فلا داعي للحقد أو إلقاء اللوم على أحد.