الكريم في أمر ذاك الصلح، ولكن حتى هذا القول النبوي المحض أيضا لم يكن بشافع للنبي صلى الله عليه وآله عند عمر!
وظل عمر يرد عليه الكلام ردا، ولم يترك للنبي صلى الله عليه وآله حتى حق الجدل والنقاش بتقسيم فرص الكلام، حتى اضطر ذلك أبا عبيدة بن الجراح ليتدخل وينتزع من الفاروق فرصة للنبي الأكرم لكي يقول ما يقول، فخاطب أبو عبيدة عمر صارخا: " ألا تسمع يا ابن الخطاب رسول الله [ صلى الله عليه وآله ] يقول ما يقول؟ نعوذ بالله من الشيطان الرجيم ".
فانظر عزيزي القارئ إلى هذا الإلهام الذي يتعارض مع الوحي! فلو كان عمر صائبا في معارضته للنبي الكريم لأبدى النبي صلى الله عليه وآله لتلك المعارضة ارتياحا وتحسينا، ولكنه سعى بكل السبل إلى إقناع عمر وإزالة أنفته بلا جدوى. فعمر لم يكن مصيبا، وليس لأحد أن يتجرأ فيصحح لنا ما صدر منه يوم هذا الصلح.. فالذي يسعى إلى تصحيح معارضة عمر تلك، عليه - قبل ذلك - أن يتلو آية التسليم لأمر الله ورسوله، وينظر متدبرا عباراتها.. فهل يجد فيها تأييدا لابن الخطاب من قريب أو بعيد، حتى يجوز له الوقوف أمام أفعال النبي صلى الله عليه وآله كما فعل يوم صلح الحديبية؟!
على أن النبي صلى الله عليه وآله بين لنا بوضوح حقيقة معارضة ابن الخطاب، فقال له بذلك الخلق القرآني العظيم: " يا عمر! إني رضيت وتأبى؟! ".. ولعمر الله، لو كان أحد يقف أمام رؤساء هذا اليوم الموقف الذي وقفه عمر أمام الصلح الذي قبله النبي صلى الله عليه وآله، لكان نصيبه سنوات في ظلمات السجون أو قرارا يطوي حبال المشانق حول عنقه.. ولكنه النبي لا كذب، فلعمر أن يقول ما يقول، ولن يجد إلا صفحا جميلا... عليك وعلى آلك صلوات الله وسلامه يا نبي الله.
" يا عمر! إني رضيت، وتأبى؟! ".. نعم يا نبي الله لقد أبى عمر ما رضيت به، فيا لها من عبارات تذيب الصخور تسليما وخضوعا وطاعة لأشرف المخلوقات.. ولكن لم يسمع قلب عمر هذه العبارات التي تعج بالمعاني والانتقاد واللوم، ولم يرم النبي صلى الله عليه وآله منها إلا بيان مقامه النبوي المعصوم الذي نسيه أبو حفص، في لحظة من لحظات الأنفة. ولو كان عمر قادرا على أن يعي تلك العبارة لكان قد وعى التي قبلها: " إني رسول الله، ولست الصفحة 102 أعصيه، وهو ناصري "، فالرسول أراد أن يذكر الناسي عمر بثلاث حقائق: أراد أن يذكره بأنه رسول الله، إذ أنه مرسل لينجز هذا الصلح أيضا من جانب الله تعالى. وأراد أن يذكره بأنه منفذ أمر الله تعالى ولن يخالفه ولن يعصي الله في أمر ما إذ أنه معصوم من قبل الله تعالى. وأراد أن يذكره بأن الله يسمع ويرى أحوال النبي وأفعاله ويعلم أعداءه، فلن يتركه عرضة للذلة والدنية، إذ أنه ناصره في كل المواقف...
ولكن هيهات لعمر أن يخضع، وكيف يخضع ولم يكن يأنس في النبي صلى الله عليه وآله العصمة؟!
وتمادى ابن الخطاب في اعتراضه.
وفي واقع الأمر، أنها لواقعة تعقد الألسن بالدهشة، إذ أننا نرى أن المقام النبوي ليس مقاما يجوز لأحد أن ينصب أمامه القامة ويرفع أمامه الرأس معارضا في شئ.
ومن ناحية نرى المقام العمري - طبقا لما صور للناس - من أنه الصحابي العادل الذي يقول الحق ولا يخشى فيه لومة لائم، وأنه الفاروق الذي فرق بين الحق والباطل، وفوق ذلك كله أنه كان صاحب إلهام ومؤيد من ناحية الوحي، ولو في مقابل النبي صلى الله عليه وآله!
ونحن عندما نرى علو مقام النبي صلى الله عليه وآله الحقيقي وعلو المقام العمري المرسوم في الأذهان، نستسلم للدهشة والحيرة، فلا نستطيع الانتصار للنبي صلى الله عليه وآله من المقام العمري الذي توهمناه، ولا نقدر على انتقاد عمر رغم إجلالنا للمقام النبوي الرفيع، فنصبح أسرى داخل شرنقة الدهشة، ونلوذ بالصمت. وكل ذلك بسبب نظرية عدالة كافة الصحابة، وما حيك حول أبي حفص من صفات إعجازية، فالتبس علينا الأمر ونسينا أن عمر هذا وغيره من كافة الصحابة كانوا مشركين يسجدون ويطأطئون الرأس لحجر أصم ردحا من السنين، فمن الله عليهم بهذا النبي الكريم الذي وقفوا بعد ذلك أمامه معترضين عليه ومسائلين في أمورهم لا يفقهون فيها شيئا ولا يعلمون حكمتها.
إن التقليد الأعمى، وعدم إدراك المقام النبوي، هو الذي أوصل عمر وكثيرا من الصحابة إلى مقامات جعلتهم في مصاف المقام النبوي بعد أن عاشوا سنين من الشرك والإلحاد!!
نعم الإسلام يجب ما قبله. ولكنه بما يجبه من شرك وبما يفعله المسلم من إحسان الصفحة 103 بعد الإسلام لا يؤهله لأن يرتفع من مقامه ليزاحم مقام النبوة، بل لا يستطيع - وهو في مقامه هذا - أن يشاهد مقام راحات أقدام النبي صلى الله عليه وآله.
فكل ذلك ما هو إلا ضبابة ضربت حول ابن الخطاب. فعمر يكفيه من الفخر أن يسرد لنا ما أنجزه في التاريخ من فتوحات للإسلام، دون أن يصوروه لنا إنسانا يدرك ما لا يقدر على إدراكه النبي صلى الله عليه وآله، ويقول الحق ولو في مقابلة النبي الكريم، ويضرب في القبر الملائكة عندما يأتونه للسؤال..
كل ذلك عشعش وباض وأفرخ في رؤوس الناس، فجاء عمر كما يعرفه أهل السنة اليوم.
لم يكن عمر معصوما من الخطأ وهوى النفس ونزعات الشيطان. وإن الإيمان يزيد وينقص، والمقامات العليا لا تنال إلا بجهاد النفس والمراقبة الشديدة في طاعة النبي صلى الله عليه وآله.. وشأن عمر وبقية الصحابة بل وكافة الناس في ذلك سواء. والقرآن الذي تلاه عمر فوجد فيه أنه مأمور بما جاء فيه من تكاليف واتباع للنبي صلى الله عليه وآله هو نفس القرآن الذي نتلوه اليوم، وهو القرآن الذي سيتلوه من يأتي من الناس في كل عصر ومصر، فإذا لم نجد فيه ما يجوز مخالفة النبي صلى الله عليه وآله، فلنا الحق أن نسأل: كيف جاز ذلك لعمر؟
فلعمر أن يغضب لشروط الصلح التي كانت تبدو في الظاهر وكأنها دنية - كما بدت له ما دام لا يستطيع أن يدرك ما يدركه النبي الكريم، من الحكمة والمصلحة - في صلح الحديبية. له أن يغضب إذا لم يستطع أن يتجاوز ببصيرته الظاهر، ولكن لا يجوز أن يترك لغضبه زمام أمره حتى ينسيه مقام النبوة. غير أنه كان المرجو من عمر أن يكون في هذا المقام الحساس في حياة الإسلام رابط الجأش صلب العزيمة إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله يشد من أزره لإنقاذ أمر الله، لا أن يسعى - بسبب غضبه وأنفته التي لحقته بسبب الصلح - إلى تفكيك الجبهة الداخلية التي كانت الهم الأول للنبي صلى الله عليه وآله بعد هجرته إلى المدينة.
يقول عمر عن كتابة الصلح: " فعملت لذلك أعمالا، فلما فرغ رسول الله، قال لأصحابه:
قوموا فانحروا ثم احلقوا... فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل خباءه... "!
الصفحة 104 إذا، فقد آتت الأعمال التي عملها عمر ضد الصلح أكلها وأينعت ثمارها.. فها هو عمر يقسم: " فوالله ما قام منهم أحد "!
إذا، فقد تمرد الصحابة على النبي صلى الله عليه وآله، وتكافأوا ضد الصلح الذي ارتضاه، ولعل ذلك مما أوحى به إليه إلهامه العمري.
يقول الثعالبي: " إن النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم رأى في منامه، عند خروجه إلى العمرة، أنه يطوف بالبيت هو وأصحابه "
وقال مجاهد: رأى ذلك بالحديبية، فأخبر الناس بهذه الرؤية... فلما صدهم أهل مكة قال المنافقون: وأين الرؤيا؟! ووقع في نفوس بعض المسلمين شئ من ذلك، فأجابهم النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم بأن قال: وهل قلت لكم: يكون ذلك في عامنا هذا؟! " (1).
وهذا هو رد النبي لعمر - كما جاء في رواية البخاري -.
وأما ابن كثير فتراه يصرح باسم عمر عند ذكره هذه الحادثة: يقول: " فلما وقع ما وقع من قضية الصلح... وقع في نفس بعض الصحابة رضي الله عنهم من ذلك شئ، حتى سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك، فقال له [ أي للنبي صلى الله عليه وآله ] فيما قال: أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟! قال [ صلى الله عليه وآله ]: بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟ قال: لا. قال النبي عليه السلام: فإنك آتيه ومطوف به " (2).
أما الطبري فقد ذكر أن السائل عن الرؤيا هم أصحاب محمد، ولم يقل هم المنافقون، كما ذكر الثعالبي..
يقول الطبري: " عن مجاهد في قوله: " الرؤيا بالحق "، قال: أري بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية: أين رؤيا محمد؟! " (3).
وقد أورد المراغي في تفسيره ما دار بين عمر والنبي صلى الله عليه وآله، فراجع من تفسيره سورة الفتح (4) تجد ما ذكرناه.
____________
(1) تفسير جواهر الحسان للثعالبي 4: 181 - سورة الفتح.
(2) تفسير ابن كثير 4: 201 - سورة الفتح.
(3) تفسير الطبري 26: 107 - سورة الفتح.
(4) تفسير المراغي 26: 112 - سورة الفتح.
الصفحة 105 فانظر إلى قول القائلين: " أين رؤيا محمد؟! " تجده يعج بالسخرية والاستهزاء ورغم ذلك فقد حكم بعدالة الجميع، وأنهم لا يتطرق إليهم الجرح، فيا للعجب! وسواء كان القائلون هم المنافقون أو هم أصحاب محمد، فقد تصدرهم ابن الخطاب، وتولى هو محاسبة النبي صلى الله عليه وآله ومعارضته دون الناس، إذ أنه لم يرد اسم أحد من الناس غيره قد استجوب النبي صلى الله عليه وآله.
ويقول الثعالبي: " والسكينة [ في قوله تعالى (هو الذي أنزل السكينة...) هي الطمأنينة إلى أمر رسول الله، والثقة بوعد الله، وزوال الأنفة التي لحقت عمر " (1).
إذا، فقد لحقت الأنفة عمر بعد فقدانه الطمأنينة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله والثقة بوعد الله.
لقد عارض عمر رسول الله الكريم في أمر الصلح بلا شك، ولما تم الصلح ولم يكن عمر راضيا به عمل له أعمالا في الخفاء لعله يوفق في إبطاله، فكانت نتيجة تلك الأعمال أن تمرد الصحابة على أمر النبي صلى الله عليه وآله لما أمرهم بأن ينحروا ويحلقوا، فأقسم عمر قسما تفوح منه رائحة السرور والافتخار بنتيجة ما عمل، فقال: " والله ما قام منهم أحد "!
وقد يسأل سائل: لماذا عارض عمر النبي صلى الله عليه وآله في كتابة ذلك الصلح؟ ولماذا حرض وألب الناس على مخالفة النبي صلى الله عليه وآله؟ ولماذا يفعل عمر كل هذا؟ وما هو السر من وراء تلك الأعمال؟
نعم، إنه لهو السؤال المنتظر، ولا بد له من إجابة تكشف عن حقيقة الأمر، وينحل بها اللغز العمري، ولكن الفاروق أراحنا وكفانا ركوب العناء والبحث عن إجابة لهذا السؤال..
يقول الثعلبي: " وقال عمر: ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ! " (2)، أي يوم صلح الحديبية.
فالأمر إذا، لم يكن إلهاما بنى عليه عمر اعتراضه وتأليبه الناس على أمر النبي صلى الله عليه وآله، بل كان الأمر كما عرفت وستعرف.
____________
(1) تفسير جواهر الحسان للثعالبي 4: 180 - سورة الفتح.
(2) أنظر: تفسير الثعلبي - سورة الفتح.
الصفحة 106 ولقد روى الواقدي: "... ولقي عمر من القضية [ يعني قضية الصلح ] أمرا كبيرا، وجعل يرد على رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم الكلام، ويقول: علام نعطي الدنية في ديننا؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم يقول: أنا رسول الله، ولن يضيعني! قال: فجعل [ عمر بن الخطاب ] يرد على النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم الكلام. قال [ و ] يقول أبو عبيدة بن الجراح: ألا تسمع يا ابن الخطاب رسول الله يقول ما يقول؟! تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، واتهم رأيك!... وقال عمر: فما أصابني قط شئ مثل ذلك اليوم، ما زلت أصوم وأتصدق مما صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت يومئذ.
فكان ابن عباس يقول: قال لي عمر في خلافته، وذكر القضية - أي قضية صلح الحديبية -: " ارتبت ارتيابا لم أرتبه منذ أسلمت إلا يومئذ. ولو وجدت ذلك اليوم شيعة - أي مؤيدين له - تخرج عنهم رغبة عن القضية لخرجت ".
وقال أبو سعيد الخدري: جلست عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما، فذكر القضية فقال: لقد دخلني يومئذ من الشك، وراجعت النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم يومئذ مراجعة ما راجعته مثلها قط، ولقد أعتقت فيما دخلني يومئذ رقابا وصمت دهرا.
وإني لأذكر ما صنعت خاليا فيكون أكبر همي، فينبغي للعباد أن يتهموا الرأي. والله لقد دخلني يومئذ من الشك حتى قلت في نفسي: لو كان مائة رجل على مثل رأيي ما دخلنا فيه أبدا " (1).
نعم، لقد لقي عمر من القضية - وهي مما قضى به الله ورسوله - أمرا بل أمرا كبيرا، والله تعالى يقول: (إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين.
وما صاحبكم بمجنون) (2). ولكن دخل عمر ما دخله من الريب يومئذ! وهذا الريب الذي يوضحه بقوله: ارتبت ارتيابا لم أرتبه منذ أسلمت، زين لعمر الخروج على أمر الله ورسوله صلى الله عليه وآله يوم الصلح، إذا وجد من يشاطره الرأي في الخروج على النبي صلى الله عليه وآله وما رضي به النبي صلى الله عليه وآله.
____________
(1) كتاب المغازي للواقدي 2: 606 - 607 - غزوة الحديبية.
(2) التكوير: 19 - 22.
الصفحة 107 وندم عمر على ما فعل داحضا بذلك تهمة الإلهام التي اتهموه بها، وقال: " لقد أعتقت فيما دخلني يومئذ رقابا، وصمت دهرا " ورغم ذلك فعندما يذكر عمر ما صنع حينما يكون في خلوته يشعر بثقل ذنبه ويكون أكبر همه، ولذا توصل عمر إلى نتيجة قنع بها في اتهام الرأي، على أن الرأي منعدم في قبالة النص، ولا سيما في حياة النبي صلى الله عليه وآله، كما حدث لعمر.
ومن عجائب ما ذكره الدحلاني في قول عمر " لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا ": " وإنما فعل ذلك لتوقفه عن المبادرة بامتثال الأمر، وإن كان معذورا في جميع ما صدر منه، بل مأجور، لأنه مجتهد "!!
ولله العجب من هذا الكلام! أيجتهد عمر في أمر صدر من النبي صلى الله عليه وآله في حياته؟! أيعد عدم امتثال عمر لأمر الله ورسوله اجتهادا في وجه النبي الكريم؟! وهل كان لعمر الخيرة من أمره قبال ما قضاه الله ورسوله من قضية الصلح تلك؟! وهل كان عمر يرى التسليم لأمر الله لا يلزمه؟! أم أن عصمة النبي صلى الله عليه وآله ليس لها وزن أمام آراء عمر بن الخطاب؟! أم يا ترى وجد عمر في قوله تعالى: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (1) فسحة للرد على النبي صلى الله عليه وآله وعدم المبادرة إلى امتثال أمره وللاجتهاد ضد أوامره؟!
وروي أنه عندما لم يقم أحد من الناس للمبادرة بامتثال أمر النبي صلى الله عليه وآله لما قال لهم:
" قوموا فانحروا وحلقوا " دخل عليه وآله السلام على أم سلمة [ التي كانت معه يومئذ ] وهو شديد الغضب فاضطجع، فقالت: ما لك يا رسول الله؟! مرارا، وهو لا يجيبها، وذكر لها ما لقي من الناس، وقال لها: هلك المسلمون، أمرتهم أن ينحروا ويحلقوا، فلم يفعلوا " (1).
فعمر لم يكن مستثنى من الناس في أمر النبي صلى الله عليه وآله بالنحر والحلق، ولم يقم عمر، وتثاقل مع الناس في امتثال أمر النبي صلى الله عليه وآله. ولو كان لعمر هذا الثواب بسبب هذا الاجتهاد ضد أوامر النبي صلى الله عليه وآله فلم قال النبي صلى الله عليه وآله لأم المؤمنين: " هلك المسلمون، أمرتهم أن ينحروا ويحلقوا، فلم يفعلوا "؟!.
____________
(1) الحشر: 7.
(2) السيرة الحلبية 3: 23 - قصة الحديبية.
الصفحة 108 إذا، فليعلم الدحلاني ومن ذهب مذهبه أن عدم المبادرة إلى امتثال أمر النبي صلى الله عليه وآله ليس أنه لا يتضمن ثوابا فحسب، بل موجب للهلاك والعذاب، كما قال النبي صلى الله عليه وآله.
ولو كان عمر بن الخطاب - دعك من أن يكون مستيقنا من الأجر على اجتهاده ضد أوامر النبي صلى الله عليه وآله - لو كان يظن ظنا أنه مأجور على عدم المبادرة إلى امتثال أوامر النبي صلى الله عليه وآله.. لما توسل إلى الله طلبا لرضاه ومغفرته بعتق الرقاب والصوم دهرا، إذ أن هذا العمل يوضح ندم عمر على ما صنع مع رسول الله، وهذا يبين إحساسه بالإثم، لا الثواب يا سيدي الدحلاني!
غير أن إثبات عدم المبادرة إلى امتثال أوامر النبي صلى الله عليه وآله من ناحية عمر هو موضع حديثنا وهو ما نسعى إلى توضيحه. ومن هنا يظهر بطلان حديث " اقتدوا باللذين من بعدي أبو بكر وعمر "، وقول من قال: إن الشيخين لامتثالهما أمر النبي عليه وآله السلام أمر باتباعهما.
ولما عاد النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه راجعين بعد صلح الحديبية إلى المدينة، نزلت عليه بكراع الغميم - وهو مكان بين مكة والمدينة - سورة الفتح.
وقد روى البخاري (1) أن النبي صلى الله عليه وآله نادى عمر وقال له: " لقد أنزلت علي سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ". ثم قرأ: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) (2)، فقال رجل من أصحابه: ما هذا بفتح، لقد صددنا عن البيت، وصد هدينا، ورد رجلان من المؤمنين كانا خرجا إلينا! فقال النبي [ صلى الله عليه وآله ] " بئس الكلام هذا، بل هو أعظم فتح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالبراح عن بلادهم، ويسألوكم القضية، ويرغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا، وأظفركم الله عليهم، وردكم سالمين مأجورين، فهو أعظم الفتوح. أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم؟! أنسيتم يوم الأحزاب (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله
____________
(1) صحيح البخاري: كتاب الجهاد - باب غزوة الحديبية - ج 3.
(2) - الفتح 1.
الصفحة 109 الظنونا)؟! " (1) فقال المسلمون: " صدق الله ورسوله، والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم بالله وبأمره منا " (2).
إقرأ مرة أخرى عزيزي القارئ خطاب ذلك الرجل لنبي الله العظيم، عندما قرأ عليه عليهم السلام (إنا فتحنا لك فتحا مبينا): " ما هذا بفتح... ". وأنت قد علمت أن الذي كانت له الجرأة على رسول الله، وكان دائما لا يخشى في الحق لومة لائم، والذي كان متصدرا الاعتراض على النبي صلى الله عليه وآله يوم الصلح... إنما عمر بن الخطاب. فمن يا ترى ذلك الرجل الذي اضطر الراوي إخفاء اسمه، ذلك الرجل الشجاع الذي لا يخشى لومة لائم، فقال رادا على النبي صلى الله عليه وآله: " ما هذا بفتح، لقد صددنا عن البيت، وصد هدينا... "؟! من هو يا ترى؟! لعل هناك فاروقا آخر لا نعلمه!
عمر وصلاة النبي على ابن أبي المنافق
من المواقف العمرية التي كان يرى فيها تناقض أفعال النبي صلى الله عليه وآله مع القرآن:
موقفه من النبي صلى الله عليه وآله عندما عزم أن يصلي على جثمان ابن أبي بن أبي سلول.
يقول عبد الله بن عمر بن الخطاب: " لما توفي ابن أبي جاء ابنه فقال: يا رسول الله، أعطني قميصك أكفنه فيه، وصل عليه، واستغفر له. فأعطاه قميصه، وقال له: إذا فرغت منه فآذنا. فلما فرغ منه آذنه به، فجاء [ صلى الله عليه وآله ] ليصلي عليه، فجذبه عمر فقال له: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين، فقال لك: (إستغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) (3)؟!
فاعتراض عمر على النبي صلى الله عليه وآله في هذه الواقعة صريح لا يقبل التأويل، وادعاء الاجتهاد في هذه المسألة يثير السخرية ممن يدعيه، وممن ينسب هذا التصرف العمري إلى غيرته الدينية..
____________
(1) الأحزاب: 10.
(2) أنظر: السيرة الدحلانية: قصة الحديبية.
(3) صحيح البخاري 4: 18 - كتاب اللباس، و 3: 92 باب قوله تعالى (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم). والآية في سورة التوبة، الآية 80.
الصفحة 110 فعليه.. إما أن يقبل أن غيرته على الدين تفوق غيرة النبي صلى الله عليه وآله، أو أن غيرة عمر هذه قد أخرجته عن دائرة اعتبار مقام النبوة، فصار يرى النبي صلى الله عليه وآله مناقضا أو مخالفا لكتاب الله!! ومن عبارته: " أليس نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟! " يتضح ذلك جليا، لأن نهي القرآن عن شئ لازمه مخالفة الذي لا يعمل بهذا النهي.
فالقرآن - كما يظن عمر - قد نهى النبي صلى الله عليه وآله عن الصلاة على المنافقين، ولكن النبي صلى الله عليه وآله صلى على المنافق ابن أبي.. فيكون بالتالي قد خالف النبي صلى الله عليه وآله القرآن الكريم - كما يظن أبو حفص - ولذا لم يتورع عن جذب النبي صلى الله عليه وآله من ثوبه والاعتراض على صلاته!!
فهذا إلهام آخر يخبر عمر بمخالفة النبي الكريم للقرآن، فيبدو النبي صلى الله عليه وآله في هذا الموقف مخطئا ومذنبا، ويظهر أبو حفص مصيبا موافقا للحق والصواب! فهل يبقل العقل هذا؟! أم هل يؤيد القرآن ذلك؟!!
ولما اشتد اعتراض عمر على النبي صلى الله عليه وآله في أمر الصلاة قال له النبي صلى الله عليه وآله: " أخر عني يا عمر إني خيرت، قيل لي: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر الله له لزدت "، [ فابتعد عمر عن سبيل النبي صلى الله عليه وآله ] فصلى رسول الله عليه، ومشى خلفه، وقام على قبره... (1).
فكل هذه الأفعال التي أتى بها النبي صلى الله عليه وآله تبدو في نظر عمر مخالفات للقرآن، ولهذا جذب النبي صلى الله عليه وآله من ثوبه ناهيا إياه عن مخالفة القرآن، في جرأة لم يتصف بها إلا عمر، ولكن لم يعبأ النبي صلى الله عليه وآله به ولا باعتراضاته، فصلى عليه كما رأيت.
على أن هذا الأمر كان بعيدا عن إدراك وأفهام عمر، وذلك لسببين:
أولا: من أين لعمر أن النبي صلى الله عليه وآله قد نهي عن الصلاة على المنافقين، وعلى القيام على قبورهم في ذلك الوقت؟! فالآية التي استدل بها عمر على منع الصلاة على موتى المنافقين والقيام على قبورهم ليس فيها إشارة إلى منع الصلاة عليهم ولا نهي عن القيام على قبورهم، وإنما تبين عدم فائدة الاستغفار لهم، ولو بلغ سبعين مرة، ولهذا قال
____________
(1) نفس المصدر السابق، وكنز العمال 1: 170 / 858.
الصفحة 111 النبي صلى الله عليه وآله لعمر: " فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر الله له لزدت " ولذا صلى النبي صلى الله عليه وآله وقام على قبره.
فاستدلال عمر بتلك الآية على منع الصلاة على المنافقين ليس في محله، بل خطأ هو بليغ سقط فيه ابن الخطاب.
وأما آية المنع عن الصلاة على المنافقين والنهي عن القيام على قبورهم فلم تكن قد نزلت قبل صلاة النبي صلى الله عليه وآله على ابن أبي، فعمر قد فهم من آية عدم فائدة الاستغفار منع الصلاة، فقال للنبي صلى الله عليه وآله: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟! فمتى نهى الله نبيه عن الصلاة على المنافقين قبل الصلاة على ابن أبي؟! فلعلها آية في القرآن نسيها أو خالفها النبي صلى الله عليه وآله ولم ينسها أو يخالفها ابن الخطاب!! ولعله من إلهامه الذي يفتقر إليه النبي صلى الله عليه وآله!
فقوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره) هو النهي عن الصلاة على أموات المنافقين والقيام على قبورهم، وهذه الآية نزلت بعد صلاة النبي صلى الله عليه وآله على ذلك المنافق، ولم يقع نهي صريح (1).
يقول عبد الله بن عمر: "... فجاء النبي [ صلى الله عليه وآله ] ليصلي عليه [ أي على ابن أبي ] فجذبه عمر، فقال له: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين، فقال لك: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم)؟! [ قال عبد الله بن عمر: ] فنزلت [ بعد ذلك ]: ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره) (2). إذا، فقد نزلت هذه الآية بعد تمام الصلاة، كما هو واضح.
أما الأمر الثاني: الذي قصرت أفهام عمر عن إدراكه، فهو الحكمة التي تضمنتها صلاة النبي صلى الله عليه وآله على ابن أبي المنافق..
فمن المعروف أن النبي صلى الله عليه وآله - في سبيل استئلاف الناس وترغيبهم في الإسلام - كان يبذل قصارى جهده ومنتهى سعيه ويبخع نفسه من أجل أن تشملهم نعمة الإسلام،
____________
(1) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 8: 423 - كتاب اللباس.
(2) صحيح البخاري 4: 18 - كتاب اللباس.
الصفحة 112 لرحمته الشديدة بهم ورأفتهم عليهم، فرحمة النبي صلى الله عليه وآله بالناس وحكمته أوجبت عليه استئلاف قوم ابن أبي بهذه الصلاة، ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله لم يقصد بهذه الصلاة ابن أبي على وجه الخصوص، لعلم النبي صلى الله عليه وآله السابق بعدم فائدة الاستغفار له، وإن بلغ فيه السبعين.
على أن النبي صلى الله عليه وآله طبقا لما جاء في الحديث لم ير أن باب الاستغفار قد أغلق، وأنه قد نهي عن الاستغفار، فقال: " فلو أعلم إن زدت على السبعين غفر الله لزدت... "، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فابن أبي كان يظهر الإسلام.
إذا، فهو من حيث الظاهر معدود من المسلمين، والرسول بصلاته على ابن أبي لم يخالف الدين في شئ، كما ظن عمر، بل أجرى حكم الظاهر في الإسلام فصلى على ابن أبي ومشى خلفه وقام على قبره، مع العلم أن منع الصلاة على المنافقين لم يصدر إلا بعد الصلاة وتمامها، كما علم.
هذا فيما يختص بشخص ابن أبي وما فعله النبي صلى الله عليه وآله تجاهه، غير أنه كان للنبي صلى الله عليه وآله حكمة ومرمى آخر لا ينتبه إليه إلا من كانت له فطنة النبوة، ولهذا لم يدركها عمر ومع عدم إدراكه هذا لم يسلم لنبي الإسلام العظيم ولم يفوض الأمر إليه تبعا للقرآن، فكان ما كان.
فما هي حكمة النبي صلى الله عليه وآله من صلاته على هذا المنافق؟
يقول ابن حجر: " إنما فعل ذلك له على ظاهر حكم الإسلام واستئلافا لقومه، مع أنه لم يقع نهي صريح. وروي أنه أسلم ألف رجل من الخزرج " (1) [ والخزرج: هم قبيلة ابن أبي ].
إذا، فحكمة النبي صلى الله عليه وآله في هذا الفعل هي استئلاف قوم ابن أبي وترغيبهم في الإسلام، وقد حدث هذا، إذ أسلم منهم لذلك ألف رجل.. ولهذا أسف أبو حفص وندم، وقال: " أصبت في الإسلام هفوة ما أصبت مثلها قط، أراد رسول الله [ صلى الله عليه وآله ] أن يصلي على ابن أبي فأخذت بثوبه، فقلت له: والله ما أمرك الله بهذا، لقد قال لك: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن تغفر الله لهم). فقال رسول الله: خيرني ربي، فقال: (استغفر لهم
____________
(1) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 8: 423 - كتاب اللباس. الصفحة 113 أو لا تستغفر لهم) فاخترت " (1).
إذا، فعمر لم يدع الإلهام فيما صنع مع النبي صلى الله عليه وآله، بل اعترف بما ارتكبه من خطأ وهفوة في الإسلام لا نظير لها، فليذهب إذا الإلهام أدراج الرياح، وليبق الاعتراف بالخطأ فضيلة لأبي حفص.
ضرب عمر لمبعوث رسول الله صلى الله عليه وآله
غير أنه لم تكن هذه الهفوة هي الوحيدة التي صدرت من جانب أبي حفص تجاه رسول الله صلى الله عليه وآله، فعندما أمر النبي صلى الله عليه وآله أبا هريرة بقوله: " إذهب، فمن لقيته يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه، فبشره بالجنة ". فكان أول من لقيه عمر، فسأله عن شأنه، فأخبره بما أمره به رسول الله صلى الله عليه وآله. يقول أبو هريرة: " فضرب عمر بيده بين ثديي فخررت لإستي، فقال:
إرجع يا أبا هريرة، فرجعت إلى رسول الله، فأجهشت بكاء، وركبني عمر وإذا هو على أثري، فقال لي رسول الله: ما لك يا أبا هريرة؟ فقلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به، فضرب بين ثديي ضربة خررت لإستي فقال: إرجع. فقال رسول الله [ صلى الله عليه وآله ]: يا عمر! ما حملك على ما فعلت؟ مل ء الفراغ قال: يا رسول الله، أبعثت أبا هريرة بأن من لقي الله يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه يبشره بالجنة؟!
فقال رسول الله: نعم.
قال: لا تفعل، فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون... "!
وهذه المرة كان عمر الآمر والنبي صلى الله عليه وآله مأمورا ومطيعا! وانعكس قوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) (2)! فعمر - كما أوضحنا سالفا - لم يكن يأنس في النبي صلى الله عليه وآله العصمة.
وهذا مما فتح الباب واسعا لاعتراضاته على النبي صلى الله عليه وآله، بل إنه قد نهى النبي صلى الله عليه وآله عما يريد فعله!
____________
(1) كنز العمال 1: 247 / 4404.
(2) - النساء: 59.
الصفحة 114 وكان عمر يحمل بين جنبيه إحساسا يجعله على قرار النبي صلى الله عليه وآله في الأمر والنهي، وإن كان هذا الإحساس يبلغ أحيانا أوجه، فيكون أبو حفص الآمر والنبي صلى الله عليه وآله المأمور!
وإلا فليس لنا تفسير لقول عمر للنبي صلى الله عليه وآله: " لا تفعل فإني أخشى... "، فهذه عبارة تبين بكل وضوح أن عمر أجلس نفسه في ذلك المقام الذي أشرنا إليه: مقام الآمر والناهي لرسول الله.
وبقوله: " إني أخشى... " يبين إحساسه بعدم قصوره عن النبي صلى الله عليه وآله في شئ، وكأنه يقول لرسول الله الكريم: إن كنت ترى تبشير الناس بالجنة - حين يستيقنون من وحدانية الله - أمرا لا بأس فيه. فأنا أرى أنه ليس صحيحا! إذا، فقد تساوت كفته مع كفة النبي صلى الله عليه وآله!!
وهو بقوله: " لا تفعل " يبين إحساسه بصواب رأيه وعدم صواب قول النبي صلى الله عليه وآله!
وليس هذا فحسب، إذ يتضمن ذلك الإحساس أيضا إحساسه بالأمر والنهي للنبي صلى الله عليه وآله، وهنا تترجح كفة عمر!... فلو كان الأمر مجرد نظر من عمر ورأي ليس له قوة الأمر لأخذ شكلا آخر، ولكن القرائن تشير إلى أن عمر لم يكن يحمل في نفسه إلا الشعور بالأمر والنهي، ولم يتعقب أبا هريرة ويلحق به إلا لينهى النبي صلى الله عليه وآله عن هذا الأمر! وضربه لأبي هريرة بتلك الصورة لأكبر دليل وأدل قرينة على ذلك، لأن النزعة الآمرة والناهية في نفس عمر جعلته يشعر بوقوع حتى أبي هريرة في الغلط، واشتراكه في اجتراح الخطأ.
وإحساس عمر تجاه النبي صلى الله عليه وآله يتضح عملا في تصرفه مع أبي هريرة بهذه الصورة.
على أن هذا الإحساس العملي تجاه النبي صلى الله عليه وآله لا يظهر من عمر إلا في شخص رسول رسول الله، وذلك لاستضعافه المسكين أبا هريرة. ولما كان هذا الإحساس منه تجاه النبي صلى الله عليه وآله يغور في أعماقه دون الظهور إلا في ألفاظه وأقواله تراه يتضح في الاعتراضات والمخالفات التي لا يسمح عمر الآمر والناهي بإخفائها في أعماقه.. ولهذا قال للنبي صلى الله عليه وآله " لا تفعل " بكل ارتياح. ولو كان عمر قانعا بقوله تعالى في شأن مقام النبي صلى الله عليه وآله: (وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى) (1)، ولو فهم منه عصمة النبي صلى الله عليه وآله وأن قول
____________
(1) النجم: 20 و 21. الصفحة 115 النبي صلى الله عليه وآله وحي من الله تعالى.. أقول: لو كان قد استيقن عمر ذلك، لم يكن ليتفوه بكل ما تفوه به، ولما عارض أبدا.
غير أن القوم - كالمعهود - يسعون إلى تصحيح ما صدر من عمر مهما كان، ولو أدى ذلك إلى انتقاص من مقام النبي صلى الله عليه وآله، حتى يبقى مقام عمر محفوظا من حيث لا يشعرون!
فلو كان عمر رأى أن الأصلح عدم تبشير الناس.. فإما أن يكون النبي صلى الله عليه وآله عالما بهذا الأصلح، أو لم يكن عالما...
فإن كان النبي صلى الله عليه وآله يعلم بالأصلح ويأمر بغيره فقد خالف الوحي، لأن الوحي لا يأمر إلا بالأصلح، ويكون النبي صلى الله عليه وآله قد أمر بما أملى عليه هواه، وهذا يخالف قوله تعالى: ( وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى).
وإن كان لا يعلم بالأصلح فالقائل بهذا عليه أن يسعى للعودة إلى حظيرة الإسلام بالتوبة.
ثم ماذا نقول في ضرب عمر أبي هريرة؟! وأي صلاح في ذلك الضرب؟!
وأين عمر من قوله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم)؟! أم أن أبا هريرة في نظر عمر لم يكن ممن هم مع محمد رسول الله صلى الله عليه وآله، فكان شديدا عليه؟! غير أننا لا نملك إلا التعجب ممن يصحح تصرفات عمر هذه.. والله المستعان.
عمر ورزية يوم الخميس
ويستمر سيل الاعتراضات العمرية على أقوال وأفعال النبي صلى الله عليه وآله، ويبلغ شأوا بعيدا في " يوم الخميس " يوم كان النبي صلى الله عليه وآله على فراش الاحتضار ينتظر لحظات الموت!
ولقد كان لعمر في ذلك الموقف أصلب الاعتراضات وأشدها ضد النبي صلى الله عليه وآله وأقواله، وهذا الموقف العجيب نشاهده في قصة يوم الخميس، أو كما يسميها ابن عباس ب " رزية يوم الخميس ".
الصفحة 116 ولقد وقعت هذه الحادثة قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله بأربعة أيام، إذ توفي صلى الله عليه وآله بعدها في يوم الاثنين.
أخرج البخاري، عن عبد الله بن مسعود، عن ابن عباس: قال: " لما حضر رسول الله (ص)، وفي البيت رجال كان فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي (ص): هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده.
فقال عمر: إن النبي [ صلى الله عليه وآله ] قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله..
فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر.
فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي (ص) قال لهم: " قوموا "..
- قال ابن مسعود -: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم " (1). وروى هذا الحديث مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده أيضا (2)
لقد ذكر أن عمر قال: " إن النبي قد غلب عليه الوجع ". وفي الحقيقة أن هذه العبارة ليست هي التي ذكرها عمر على التحقيق واصفا بها رسول الله صلى الله عليه وآله، وإنما هي معنى ما تفوه به ابن الخطاب في رده على طلب النبي صلى الله عليه وآله!
وهذا ما يؤكده حديث أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجواهري، حيث يروي عن ابن عباس أنه قال: " لما حضر رسول الله الوفاة، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال رسول الله [ صلى الله عليه وآله ]: ائتوني بداوة وصحيفة أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، قال: فقال عمر كلمة معناها أن الوجع قد غلب على رسول الله (ص). ثم قال [ أي عمر ]: عندنا القرآن، حسبنا كتاب الله!
فاختلف من في البيت واختصموا، فمن قائل: قربوا يكتب لكم النبي، ومن قائل ما قال عمر [ أي الكلمة التي تعني أن الوجع قد غلب على النبي صلى الله عليه وآله ]. فلما أكثروا اللغط واللغو
____________
(1) صحيح البخاري: كتاب المرضى - باب قول المريض قوموا عني، وكتاب العلم من صحيح البخاري ج 1.
(2) صحيح مسلم: كتاب الوصايا - ج 2: وأحمد بن حنبل في مسنده 1: 325 و 355.
الصفحة 117 والاختلاف، غضب (ص) فقال: قوموا " (1).
إذا، فعمر لم يقل في رده على النبي صلى الله عليه وآله: إن النبي قد غلب عليه الوجع، وإنما قال كلمة تحمل هذا المعنى مع احتوائها على معان أخر.. فما هي تلك الكلمة التي أحجم يراع الرواة عن إثباتها على صفحات القرطاس؟!
يروي البخاري في صحيحه، عن ابن عباس أنه قال: " يوم الخميس، وما يوم الخميس؟! ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء، فقال: اشتد برسول الله (ص) وجعه يوم الخميس، فقال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فتنازعوا - ولا ينبغي عند نبي تنازع - فقالوا: هجر رسول الله (ص)!
قال (ص): دعوني! فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه!
وأوصى عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، (قال): ونسيت الثالثة " (2)!
فالشئ الواضح في تلك الأحاديث أن المبادر بالرد على رسول الله صلى الله عليه وآله اطرادا هو عمر بن الخطاب، والناس تبع له فيما يقول.. وهذا واضح في عبارة " ومنهم من يقول ما قال عمر "، وعبارة " ومن قائل ما قال عمر " فعمر إذا، هو المبادر إلى الرد على رسول الله الكريم، والناس إنما نسجوا على منواله.
ثم كانت الكلمة التي استعاض عنها الرواة بذكر معناها، وهي هجر رسول الله، حيث أوردها البخاري في الحديث الأخير، ولكنه عبر عنها بما قاله الناس، مع علمنا بأن الناس كانوا يقولون ويرددون ما كان يقوله عمر.
إذا، فالذي قال في البدء ونسج الناس على منواله هو عمر بن الخطاب لا غير.
إن صحة هذه الحادثة وهذه الرزية مما لا شك فيه ولا يشوبها الريب. ثم إن فظاعة الواقعة جعلت القوم يبذلون المهج عبثا في الحصول على تفسير لائق يدفع تهمة الرد
____________
(1) كتاب السقيفة لأبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجواهري.
(2) صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير - باب جوائز الوفد، وصحيح مسلم: كتاب الوصية.
الصفحة 118 والاعتراض عن الفاروق الذي واجه النبي صلى الله عليه وآله واتهمه بالهجر والهذيان والخطرفة التي تعتري المريض وفاقد الوعي!!
وقد ذكر عمر أن النساء اللائي كن حاضرات في ذلك الوقت قلن من خلف الستار: " ألا تسمعون ما يقول رسول الله (ص)؟!
قال عمر: إنكن صويحبات يوسف، إذا مرض عصرتن أعينكن، وإذا صح ركبتن عنقه!
قال [ عمر ]: فقال رسول الله [ صلى الله عليه وآله ] دعوهن فإنهن خير منكم " (1).
إن شدة الاعتراض العمري وسوء التصرف تجاه أمر النبي صلى الله عليه وآله الذي بدر منه، ورده الواضح لسنة النبي صلى الله عليه وآله جعل القوم في ذهول عن مقام النبوة، ودفعهم صعوبة الموقف إلى زهق الأرواح في سبيل الحصول على اعتذار عما صدر من ابن الخطاب!
فماذا قال المعتذرون في تبرير شدة عمر على النبي صلى الله عليه وآله في هذا الأمر؟
لبيان ما أورده المعتذرون عن عمر ومن تابعه في تلك المعارضة.. ننقل ما دار بين الشيخ سليم البشري - شيخ الأزهر الشريف في زمانه - والسيد شرف الدين الموسوي في مسألة رزية يوم الخميس هذه، إذ يمثل هذا الحوار القمة في البحث العلمي القائم على الإنصاف والعدل وبيان الحقيقة، بعيدا عن الأغراض وتتبع العورات والمساءات. ولا غرو، إذ كان الرجلان من جهابذة علماء المسلمين، وقد كان الحوار بحق مثالا يقتدى في بحث الأمور الخلافية بين من اختلفت مشاربهم من الفرق الإسلامية، وهم ينتمون إلى هذا الدين الحق، لم ينقطع بينهم الأصل الرابط حتى يتعسر عليهم الاتفاق.
يقول الشيخ سليم: " لعل النبي عليه السلام حين أمرهم بإحضار الدواة والبياض لم يكن قاصدا لكتابة شئ من الأشياء، وإنما أراد بكلامه مجرد اختبارهم لا غير. فهدى الله عمر الفاروق لذلك دون غيره من الصحابة، فمنعهم من إحضارها. فيجب - على هذا - عد تلك الممانعة في جملة موافقاته لربه تعالى، وتكون من كراماته رضي الله عنه ".
هكذا أجاب بعض الأعلام... لكن الإنصاف أن قوله صلى الله عليه وآله: " لن تضلوا بعده " لا يخفي أن الإخبار بمثل هذا الخبر لمجرد الإخبار إنما هو من نوع الكذب الواضح الذي
____________
(1) كنز العمال 3: 138.
الصفحة 119 يجب تنزيه الأنبياء عنه، ولا سيما في موضع يكون ترك إحضار الدواة والبياض أولى من إحضارها.
على أن في هذا الجواب نظرا من جهات أخر، فلا بد هنا من اعتذار آخر.. حاصل ما يمكن أن يقال [ فيه ]: إن الأمر لم يكن أمر عزيمة وإيجاب حتى لا تجوز مراجعته ويصير المراجع عاصيا، بل كان أمر مشورة، وكانوا يراجعونه صلى الله عليه وآله في بعض تلك الأوامر لا سيما عمر، فإنه كان يعلم من نفسه أنه موفق للصواب في إدراك المصالح وكان صاحب إلهام من الله تعالى، وقد أراد التخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله إشفاقا عليه من التعب الذي يلحقه بسبب إملاء الكتاب في حال المرض والوجع. وقد رأى رضي الله عنه أن ترك إحضار الدواة أولى..
وربما خشي أن يكتب النبي صلى الله عليه وآله أمورا يعجز الناس عنها فيستحقون العقوبة بسبب ذلك، لأنها تكون منصوصة لا سبيل إلى الاجتهاد فيها، ولعله خاف من المنافقين أن يقدحوا في صحة ذلك الكتاب لكونه في حال المرض فيصير سببا للفتنة، فقال " حسبنا كتاب الله " لقوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) وقوله: (اليوم أكملت لكم دينكم)! وكأنه رضي الله عنه أمن من ضلال الأمة حيث أكمل الله لها الدين وأتم عليها النعمة.
هذا جوابهم، وهو كما ترى! لأن قوله صلى الله عليه وآله: " لن تضلوا " يفيد أن الأمر أمر عزيمة وإيجاب، لأن السعي فيما يوجب الأمن من الضلال واجب مع القدرة بلا ارتياب.
واستياؤه [ صلى الله عليه وآله ] منهم وقوله لهم: " قوموا! " حين لم يمتثلوا أمره دليل آخر على أن الأمر إنما كان للإيجاب لا للمشورة.
[ فإن قلت: لو ] كان واجبا ما تركه النبي صلى الله عليه وآله بمجرد مخالفتهم، كما أنه لم يترك التبليغ بسبب مخالفة الكافرين.
فالجواب: أن هذا الكلام لو تم فإنما يفيد كون كتابة ذلك الكتاب لم تكن واجبة على النبي [ صلى الله عليه وآله ] بعد معارضتهم له عليه السلام. وهذا لا ينافي وجوب الإتيان بالدواة والبياض عليهم حين أمرهم النبي [ صلى الله عليه وآله ] به وبين لهم أن فائدته الأمن من الضلال، إذ الأصل في الأمر الصفحة 120 إنما هو الوجوب على المأمور، لا على الآمر، لا سيما إذا كانت فائدته عائدة على المأمور خاصة، والوجوب عليهم هو محل الكلام لا الوجوب عليه [ صلى الله عليه وآله ].
على أنه يمكن أن يكون واجبا عليه أيضا، ثم سقط الوجوب عنه بعدم امتثالهم وبقولهم: " هجر "، حيث لم يبق لذلك الكتاب أثر سوى الفتنة، كما قلت حرسك الله.
وربما اعتذر بعضهم، بأن عمر رضي الله عنه ومن قالوا يومئذ بقوله لم يفهموا من الحديث أن ذلك الكتاب سيكون سببا لحفظ كل فرد من أفراد الأمة من الضلال على سبيل الاستقصاء، بحيث لا يضل بعده منهم أحد أصلا، وإنما فهموا من قوله: " لن تضلوا " إنكم لا تجتمعون على الضلال بقضكم وقضيضكم، ولا تتسرى الضلالة بعد كتابة الكتاب إلى كل فرد من أفرادكم. وكانوا رضي الله عنهم يعلمون أن اجتماعهم بأسرهم على الضلال مما لا يكون أبدا، وبسبب ذلك لم يجدوا أثرا لكتابته، وظنوا أن مراد النبي [ صلى الله عليه وآله ] ليس إلا زيادة الاحتياط في الأمر، لما جبل عليه من وفور الرحمة، فعارضوه تلك المعارضة، بناء منهم أن الأمر ليس للإيجاب وأنه إنما هو أمر عطف ومرحمة ليس إلا، فأراد التخفيف عن النبي [ صلى الله عليه وآله ] بتركه إشفاقا منهم عليه [ صلى الله عليه وآله ].
هذا كل ما قيل في الاعتذار عن هذه البادرة، ولكن.. من أنعم النظر فيه جزم ببعده عن الصواب، لأن قوله صلى الله عليه وآله " لن تضلوا بعده " يفيد أن الأمر للإيجاب - كما ذكرنا - واستياؤه منهم دليل على أنهم إنما تركوا من الواجبات ما هو أوجبها وأشدها نفعا، كما هو معلوم من خلقه العظيم.
ويختم الشيخ سليم رحمه الله قوله قائلا: فالأولى أن يقال في الجواب:
هذه قضية في واقعة كانت منهم على خلاف سيرتهم، كفرطة سبقت، وفلتة ندرت، لا نعرف وجه الصحة فيها على سبيل التفصيل، والله الهادي إلى سواء السبيل.
يقول الإمام شرف الدين الموسوي: قلت قد استفرغ شيخنا وسعه في الاعتذار عن هذه المعارضة، وفي حمل المعارضين فيها إلى الصحة، فلم يجد إلى ذلك سبيلا. لكن علمه واعتداله وإنصافه كل ذلك أبى عليه إلا أن يصدع برد تلك الترهات،، ولم يقتصر في تزييفها على وجه واحد، حتى استقصى ما لديه من الوجوه، شكر الله حسن بلائه في الصفحة 121 ذلك.
تزييف الاعتذار من نواح أخر
وحيث كان لدينا في تزييف تلك الأعذار وجوه أخر أحببت يومئذ عرضها عليه، وجعلت الحكم فيها موكولا إليه.
فقلت: قالوا في الجواب الأول لعله [ صلى الله عليه وآله ] حين أمرهم بإحضار الدواة لم يكن قاصدا لكتابة شئ من الأشياء، وإنما أراد اختبارهم لا غير.
فنقول - مضافا إلى ما أفدتم -: إن هذه الواقعة إنما كانت حال احتضاره - بأبي وأمي - كما هو صريح الحديث، فالوقت لم يكن وقت اختبار، وإنما كان وقت إعذار وإنذار ونصح تام للأمة، والمحتضر بعيد عن الهزل والمفاكهة، مشغول بنفسه ومهماته ومهمات ذويه، ولا سيما إذا كان نبيا.
وإذا كانت صحته مدة حياته كلها لم تسع اختبارهم، فكيف يسعها وقت احتضاره؟ على أن قوله [ صلى الله عليه وآله ] حين أكثروا اللغو واللغط والاختلاف عنده: " قوموا " ظاهر في استيائه منهم، ولو كان الممانعون مصيبين لاستحسن ممانعتهم وأظهر الارتياح إليها.
ومن ألم بأطراف هذا الحديث - ولا سيما قولهم: " هجر رسول الله " - يقطع بأنهم كانوا عالمين أنه إنما يريد أمرا يكرهونه، ولذا فاجأوه بتلك الكلمة وأكثروا عنده اللغو واللغط والاختلاف، كما لا يخفى.
وبكاء ابن عباس بعد ذلك لهذه الحادثة، وعدها رزية دليل على بطلان هذا الجواب.
قال المعتذرون: إن عمر كان موفقا للصواب في إدراك المصالح، وكان صاحب إلهام من الله تعالى.
وهذا مما لا يصغى إليه في مقامنا هذا، لأنه يرمي إلى أن الصواب في هذه الواقعة إنما كان في جانبه، لا في جانب النبي [ صلى الله عليه وآله ]، وأن إلهامه يومئذ كان أصدق من الوحي الذي نطق عنه الصادق الأمين [ صلى الله عليه وآله ].
وقالوا: بأنه أراد التخفيف عنه [ صلى الله عليه وآله ]، إشفاقا عليه من التعب الذي يلحقه بسبب