السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من أنا وأين كنتُ وإلام المصير ؟!
سؤالٌ شغل العلماء والفلاسفة والمتكلمين ردحًا من الزمن , ولا يزال يشغلهم , حاولوا كشف اللثام عنه ,
لكنهم وقفوا دون تحقيق مبتغاهم لأن هذا السؤال تعلَّق بإدراك حقيقة اختص بها الله سبحانه وتعالى ألا وهي الروح
( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ) .
وقد افترق الناس في فهم قضية الروح طوائف عدّة فمنهم من خاض بلا دليل , ومنهم من خاض دون فهم الدليل ,
وكلاهما نأى عن جادة الصواب ومنهم من وقف عند ميزان الشرع .
البررخ : قال تعالى : ( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) . فالبرزخ هنا ما بين الدنيا والآخرة , وأصله الحاجز بين شيئين .
قيل : الأرواح متفاوتة في مستقرّها في البرزخ أعظم تفاوت :
فمنها : أرواحٌ في أعلى علييّن في الملأ الأعلى , وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ,
وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء .
ومنها : أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ,
وهي أرواح بعض الشهداء لا جميعهم بل من الشهداء من تُحبس روحه عن دخول الجنّة لِدّيْنٍ عليه أو غيره كما في ( المسند ) ,
أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله مالي إن قُتلتُ في سبيل الله ؟ قال : ( الجنة ) فلمّا ولّى قال :
( إلّا الدَيْن , سارّني به جبريل آنفًا ) .
ومنهم : من يكون محبوسًا على باب الجنة , كما في حديث الذي كان عليه ديْن , قال صلى الله عليه وسلم :
( رأيتُ صاحبكم محبوسًا على باب الجنّة ) .
ومنهم : من يكون محبوسًا في قبره , كحديث صاحب الشَّملة التي غلَّها ثم استشهد , فقال الناس : هنيئًا له الجنة
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده , إن الشَّملة التي غلَّها لتشتعل عليه نارًا في قبره ) .
ومنهم : من يكون مقرّه باب الجنة , كما في حديث ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
( الشهداءُ على بَارِق ِ نهر بباب الجنّة , في قبّة خضراء , يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيّا ) . رواه أحمد
وهذا بخلاف جعفر بن أبي طالب حيث أبدله الله من يديه جناحين يطير بهما في الجنّة حيث شاء .
ومنهم : من يكون محبوسًا في الأرض , لم تعلُو روحه إلى الملأ الأعلى , فإنها كانت روحًا سُفلية أرضية ,
فإن الأنفس الأرضية لا تجتمع مع الأنفس السماوية , والنفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربِّها ومحبته وذكره ,
والأُنس به والتقرّبُ إليه , هي أرضية سفلية , لاتكون بعد المفارقة لبدنها إلا هناك .
كما أن النفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفة على محبة الله وذكره , والتقرب إليه والأنس به ,
تكون بعد المفارقة مع الأرواح العلويّة المناسِبة لها , فالمرء مع من أحبَّ في البرزخ ويوم القيامة .
والله تعالى يزوّج النفوس بعضها ببعض في البرزخ ويوم المعاد كما دلّ عليه الحديث ,
ويجعل روحه - يعني المؤمن - مع النَّسم الطيب , أي : الأرواح الطيبة المُشاكلة ,
فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها وأخواتها وأصحاب عملها , فتكون معهم هناك .
ومنها : أرواح تكون في تنُّور الزُّناة والزَّواني , وأرواح في نهر الدّم تسبح فيه وتُلقم الحجارة ,
فليس للأرواح سعيدها وشقِيِّها مستقرٌ واحد , بل روحٌ في أعلى علييّن , وروحٌ أرضية سُفلية لا تصعد عن الأرض .
والروح شأنها غير شأن البدن , وأنها مع كونها في الجنة فهي في السماء , وتتصل بفِناء القبر وبالبدن فيه ,
وهي أسرع شيء حركة وانتقالاً , وصعودًا وهبوطًا, وأنها تنقسم إلى مُرسَلة ٍ ومحبوسة , وعلوية وسفلية ,
ولها بعد المُفارقة صحةٌ ومرض , ولذّة ونعيم , وألمٌ أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير ,
فهنالك الحبس والألم والعذاب والمرض والحسرة , وهنالك اللذة والراحة , والنعيم والإطلاق ,
وما أشبه حالها في هذا البدن بحال ولد ٍفي بطن أمِّه , وحالها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه من البطن إلى هذه الدار !
فلهذه الأنفس أربعُ دورٍ كلُّ دار أعظمُ من التي قبلها :
الدَّار الأولى : في بطن الأم , وذلك الحَصْرُ والضيق , والغمُّ والظلمات الثلاث .
والدار الثانية : هي الدّار التي نشأت فيها وأَلِفتها , واكتسبت فيها الخير والشر وأسباب السعادة والشقاوة .
والدّار الثالثة : دار البرزخ , وهي أوسع من هذه الدار وأعظم , بل نسبتها إليه كنسبة هذه الدار إلى الأولى .
والدّار الرابعة : دار القرار وهي الجنّة أو النار فلا دار بعدها ,
والله ينقّلها في هذه الدور طبقًا بعد طبق حتى يبلغها الدّار التي لايصلُح لها غيرها ولا يليق بها سواها ,
وهي التي خُلقت لها وهيِّئت للعمل المُوصل لها إليها , ولها في كلِّ دار من هذه الدور حُكمٌ وشأن غير شأن الدار الأُخرى .
ومن عرف نفسه , عرف ربّه , وعرف صدق أنبيائه ورسله ,
وأنَّ الذي جاؤوا به هو الحق الذي تشهد به العقول تقرُّ به الفِطَرُ , وما خالفه هو الباطل .وبالله التوفيق
أمّا التناسخ الباطل , فهو ما تقوله أعداء الرُّسل من الملاحدة وغيرهم , الذين ينكرون المعاد .
فهم يزعمون بأن الأرواح تصير بعد مفارقة الأبدان إلى أجناس ِ الحيوان والحشرات والطيور التي تناسبها وتشاكلها ,
فإذا فارقت هذه الأبدان انتقلت إلى أبدان تلك الحيوانات ,
فتنعم فيها أو تعذّب , ثم تفارقها وتحل في أبدان أُخر تناسب أعمالها وأخلاقها , وهكذا أبدا ,
فهذا معادها عندهم , ونعيمُها وعذابها , لا معاد عندهم غير ذلك
ومنهم من قال : إن الأرواح تُعدم جملة بالموت , ولا تبقى هناك روح تنعَّم ولا تُعذّب ,
بل النعيم والعذاب يقع على الجسد , أو جزء ٍ منه , فهؤلاء عندهم لا عذاب في البرزخ إلا على الأجساد ,
ومقابلهم من يقول : إن الروح لا تُعاد إلى الجسد بوجه ولا تتّصل به , والعذاب والنعيم على الروح فقط .
والسنّة الصريحة المتواترة ترد قول هؤلاء وهؤلاء وتبين أن العذاب على الروح والجسد مجتمعين ومنفردين .
وكذلك يردُّه الكتاب والسنُّة وإجماع الصحابة , وأدلة العقول والفِطن والفطرة , وهو قول من لم يعرف روحه
فضلا ً عن روح غيره , وقد خاطب الله سبحانه النَّفس بالرجوع والدخول والخروج ,
ودّلت النصوص الصحيحة الصريحة على أنّها تصعد وتنزل , وتُقبض وتُمسك وتُرسل ,
وتُستفتح لها أبواب السماء , وتسجد وتتكلّم , وأنها تخرج تسيل كما تسيل القطرة , وتكَّفن وتحنّط في أكفان الجنة أو النار ,
وأن ملك الموت يأخذها بيده ثم تتناولها الملائكة من يده , ويُشم ُّ لها كأطيب نفحة مسك ٍ , أو أنتن جيفة ٍ ,
وتشيّع من سماء إلى سماء , ثم تعاد إلى الأرض مع الملائكة , وأنّها إذا خرجت تبعها البصر , بحيث يراها وهي خارجة .
ودل القرآن على أنها تنتقل من مكان إلى مكان , حتّى تبلغ الحلقوم في حركتها , وتتلاقى الأرواح وتتعارف وأنها جنود مجنّدة ,
وقد شاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - الأرواح ليلة الإسراء عن يمين آدم وشماله ,
وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنَّة ,
وأن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر وأخبر تعالى عن أرواح آل فرعون أنَّها تُعرض على النار غدوَّا وعشيا .
هذا والله أعلم . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما ً كثيرا
منقول .